«نظام التفاهة» ليس سباً وقذفاً، لكنه توصيف أكاديمي للباحث آلان دونو أستاذ الفلسفة في «جامعة كيبيك» الكندية الذي قدمه عام 2015 ضمن كتابه La médiocratie الذي صدرت أخيراً ترجمته العربية بعنوان «نظام التفاهة» (ترجمة الاختصاصية في القانون مشاعل عبد العزيز الهاجري ــــ دار سؤال ـ بيروت). تشير المترجمة في مطلع كتابها إلى مُصطلحين قد يُساعداننا في فهم حالة ترامب الشخصية وطبيعة إدراته السياسية لأميركا. تفرّق مشاعل بين كلمة Mediocrity التي تصف حالة الفرد من حيث التفاهة والسخافة المراهقة وتواضع المستوى الفكري، وكلمة Mediocracy التي تعني نظاماً اجتماعياً تسيطر عليه طبقة حاكمة من التافهين. مصطلح جديد نوعاً ما انضمّ إلى القاموس عام 1825 ولا يوجد له مُرادف عربي أفضل من «التفاهة» لوصف هذه الحقبة الأميركية الرديئة.

منذ لحظة وصول دونالد ترامب إلى سُدة الحكم في الولايات المتحدة، تم إعلان انتصار «نظام التفاهة» على ما عداه من أوصاف أخرى كـ «الشعبوية» التي كثر استخدامها، فالرداءة والانحطاط صارا معيارَي الإدارة الأميركية الجديدة. تدهورت منظومات القيم وانتهاك القانون الدولي أكثر من لحظة الغزو الأميركي لكل مِن أفغانستان والعراق على التوالي مع بداية الألفين، لتظهر آخر تجلياتها باغتيال شخصيات ذات صفات عسكرية رسمية على أراضي دولة يُفترض أنها صارت ذات سيادة كالعراق، والتفاخر بهذا تحت شعارات الديمقراطية. وبالتوازي مع هذه التفاهة الأميركية، تجلّت تفاهة المركز الأميركي على دول الأطراف العربية، ليطلّ علينا أصحاب الشعارات الفارغة والأفكار الجوفاء البراقة التي لا تخدم سوى السوق الأميركي في النهاية وتهمّش سيادة الأوطان وحقوق الشعوب وتغيّب الكفاءة والأداء السياسي المسؤول لصالح الحرية الفردية والخيار الشخصي. هذه الحالة السابقة دفعت فيلسوف السياسة مونتسكيو (1689 – 1755) إلى طلب حماية فكرة الحرية من أن تطالها التفاهة.
لكن يبدو أنّنا لم نملك السرعة الكافية لحماية الحرية، فقد تغيّر الزمان وحَكم «التافهون» أمثال دونالد ترامب وصبيانه في الشرق الأوسط، وارتقى التافهون إلى رأس هرم السلطة هذه المرة من دون تدمير سجن الباستيل الفرنسي 1789، ولا حرق برلمان الرايخستاغ الألماني عام 1933، ومن دون أن يطلق الطراد الروسي القيصري الأسطوري «أورورا» قذائفه ضد اليابان (1904-1905)، ومن دون أن يُعلن مدفع الطراد الروسي بداية الثورة البلشفية 1917. أي أنّ التافهين صاروا يحكمون العالم من دون رصاصة واحدة! وهذا في نظر دونو إحدى مراحل تطور النظام الرأسمالي.
يريد دونو أن يشير إلى فرق بين الماضي حيث كان الإنسان يستطيع إدراك الفعل المُعتاد كي يعرف مجريات الأمور وأسبابها وما يترتب عليها، ويختار إما التضحية أو التغيير أو طرح بديل أو الحفاظ على القائم، سواء تعلّق الأمر بالسلطة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. أما الآن، فإنّ «نظام التفاهة» يؤسّس لواقع جديد يظنّ الإنسان فيه أنه حرّ تماماً من أيّ قيد، لكن هذا لا يعني سوى أننا نخضع لمعيار وحيد لا يمكنا اختيار سواه، أي أنّه فُرض علينا، ما يدلّ على فعالية مُنقطعة النظير لنظام التفاهة في السيطرة والحكم.
الخلل في النظام العالمي اليوم يظهر مثلاً زيادة شعبية ترامب مع كلّ إجراء سياسي أو «تويتة» تافهة يقوم بها. تكشف الاستطلاعات الأخيرة بتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2019 عن تزايد التأييد لترامب رغم إجراءات العزل التي تهدّد رئاسته. يُفسّر دونو هذه الظاهرة إلى حدّ بعيد بظهور «خبراء» فارغين قادرين على توجيه الرأي العام عبر خطب تافهة لا تحفظ للخبراء ومن يدعمونهم إلّا بقاءهم في السلطة. لذا، يعزو دونو أسباب «هيمنة التافهين» إلى أمرين هما: انحدار مفهوم العمل، وتفريغ السياسة والشأن العام من المفاهيم المُنظمة والحاكمة لهما.
في ما يخص «مفهوم العمل» وانحداره، يشير آلان دونو إلى ما لاحظه كارل ماركس عام 1849 بأن اختزال العمل إلى مجرّد قوة عمل، ثم إلى مجرّد وحدة قياس، ثم إلى أجر فقط، يجعل «العمّال» غير مبالين بشيء بدءاً بخطوط الإنتاج وصولاً إلى المنتجات التي يقدّمونها، بحيث لا تربطهم أيّ منفعة مباشرة بها مثل إنتاجهم كتباً وصحفاً وبيعها من دون قراءتها أصلاً. إعادة شرح كلاسيكي لمفهوم الاغتراب، والجديد فيه فقط هو ربط بعض المصطلحات الماركسية بشرح «نظام التفاهة» الحالي الذي نعيشه. يتطرق دونو أيضاً إلى نزع الحيوية عن العمل وتحوّله إلى محض آلية لتأمين الحياة للعمال ووسيلة لنمو رأس المال وتحوّل الحِرف (يدوية/فكرية) إلى وظيفة، والوظيفة إلى وسيلة، والوسيلة في علم اللغة تأخذ صفة الإجبار والفعل العام، ما يحيل المجتمع كلّه إلى حالة من التفاهة. ولفهم هذه الفكرة أبسط من الفلسفة اللغوية لدونو، لننظر إلى أغلب أسباب شعبية دونالد ترامب: الناخبون ينظرون إليه على أنه يلبي حاجتهم من الوظائف (الوسائل). وبهذا يحمي نظام التفاهة نفسه بقاعدة عريضة من الأتباع من حاملي أسهم «وول ستريت» وأصحاب الوظائف أو حتى العاطلين المنتظرين لوظائف.
الأمر الثاني ــ الأهم ــ هو السياسة وتفريغها من أيّ مضمون، والانتقال تم مع بداية حقبة تاتشر/ ريغن (1979 - 1990). حقبة عملت على تكريس النيوليبرالية، ومعها تغيّرت مفاهيم العمل السياسي وتنحّى الفعل المباشر لصالح الأتمتة أو الحوكمة، بل أبعد من ذلك: لقد صار الثوري مِهنة لكسب العيش بعدما كان الثوري والثورة حالةً مؤقتةً لحلّ أزمة أو الوقاية من كارثة كما تشير الماركسية روزا لوكسمبورغ (1871 – 1919). وبما أن الاقتصاد الرأسمالي كان دائماً يسير وئيداً تجاه الكوارث الدورية، صار ضرورياً الإطاحة بفكرة «الإرادة السياسية». هكذا، تحولت الإرادة الشعبية إلى قبول مُجتمعي، والمواطن إلى مستهلك ومتابع. صار الشأن العام حقل إدارة خرجت منه منظومة القيم والمبادئ وكلّ المفاهيم العُليا.
مع تكريس النيوليبرالية، تغيرت مفاهيم العمل السياسي وتنحّى الفعل المباشر لصالح الأتمتة

وصارت الدولة درعاً للشركات العابرة للقارات، والمصلحة العامة مفهوماً مُنفراً تم تفتيته لمفهوم مصالح الأفراد. وبات السياسي يتقاضى أجراً للدفاع عن مصالح شلته. يشير دونو إلى أن الليبرتاريين والليبراليين قرّروا إرساء مظهر خارجي للسياسة بطريقة مُنظمة تتمحور حول فكرة الحرية الفردية المُريحة، وتقديم مقاربات وممارسات للحرية بشكل انتقائي، مع مبادئ تقدّم في شكل عروض «السوبر ماركت» يختار المستهلك ما يشعره بحرية أكبر، ما جعل العالم يتفكّك ويوشك على الاختفاء لصالح بعض المصالح الأنانية لبلدان مثل الولايات المتحدة التي صار القانون الدولي ومفاهيم السياسة والدبلوماسية عندها ومن يتبعها تخضع لمزاج أفراد معدودين في البيت الأبيض. يُسهب كتاب «نظام التفاهة» في شرح النظام الدولي الحديث ويفكّك المنظومات التعليمية والأكاديمية والسياسية والاقتصادية النيوليبرالية التي تكرس التفاهة وتحميها وتعمل على نشرها، ويقدم خاتمة تحاكم تفاهة تيار الشيوعيين الذي يهرب من تاريخه، ويلقي بكلّ أفكاره ورموزه كي يندمج مع منظومة التفاهة القائمة. أجاد آلان دونو وصفهم بتعبير «نحن يساريون ولكن ...»، ليضيف كلمات مثل «لكن لسنا ستالينيين»، «لكن لا نريد تأميماً»، وهذا ما أفرغ اليسار من أي فعل جاد، أو بشكل أكثر جدية قام بعملية خصاء للشيوعية كي تصير هيكلاً كاملاً بلا عنفوان! أخيراً لعلّ ما يشهده الشرق الأوسط ساسة ونشطاء وثواراً ــ مجازاً ــ وسياسات أميركية غير مسؤولة، هو خير مثال ليفهمنا ماذا يعني «النظام التافه».