يوضح الكاتبان الطبيب غسان أبو ستّة والباحث والصحافي ميشال نوفل في كتابهما «سردية الجرح الفلسطيني: تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية» (دار الريس) أمرين شديدي الأهمية: الأوّل هو علاقة الجسد/ المصاب والجرح الفلسطيني بالسّياسة. أما الثاني فهو الترابط بين العمل الميداني على الأرض، وبين التأثير والتأثّر بما يحدث من «أحداثٍ جلل» على الصعيد السياسي العربي المحلّي والعالمي. في البداية، ربما كون أبو ستّة طبيباً، فلسطينياً عمل ـــ ولا يزال ـــ في مجال الإغاثة الطبّية في قطاع غزّة إبان العدوان الصهيوني المتكرر على تلك المنطقة، فإنّ ما لفت انتباهه أكثر من أي شيء آخر هو «ماذا يقوله الجرح» الذي تتسبب فيه الحروب والغارات والقذائف الصهيونية.

هناك سرديةٌ لهذا الجرح، قصةٌ، رسالة ما. «كنتُ خلال الثلاثين سنةً الماضية شاهداً على حروبٍ عدّة، وفي بعضها، كنت حاضراً فيها شخصياً. كنت أرى الحروب في أجساد الجرحى الذين كنت أعالجهم، وها أنا اليوم أسجّل خلاصة هذه التجربة». إذا هذا هو باختصار الكتاب الذي بين أيدينا، وربما هو واحدٌ من التجارب القليلة التي تتناول هذا النوع من «التسجيل» أو «التأريخ للحرب».
ينقسم الكتاب في إطاره التطبيقي إلى خمسة فصول بعد تمهيدٍ ومقدّمة يشرح فيهما الكاتبان سبب إصدار الكتاب: «محور المعركة الحقيقية في كلّ الحروب، هو جسد الجريح، وليس قطعة الأرض التي يصدف حدوث المعارك عليها. وإن الجرح الحربي منذ لحظة الإصابة، على امتداد حياة المصاب، هو تعبير حيوي بيولوجي للحرب، كذلك فإنّه خزان سرديتها وشاهدٌ أزلي على معاناة الجرحى. وفي كلّ جرحٍ عالجته، كنت أرى الحرب تتجسّد أمامي، وكل تلك الجروح التي عاينتها في فلسطين والعراق وسورية واليمن، كانت النافذة التي أطل منها على تلك الحروب» يقول أبو ستّة.
يوضح الكاتبان كيف ظهرت نظرية «السياسة الحيوية» التي مهّدت لها نظريات الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وتعنى هذه الفلسفة/ السياسة بإدخال الجسد البشري في السياسة. تأتي السياسة الحيوية كفكرة ـــ بحسب فوكو ـــ تقضي بالاهتمام بصحة الفرد وحياته نظراً إلى مدى «تأثيرها» على السياسة العامة للبلاد. «السياسة الحيوية في نظر ميشال فوكو، العمل المتناسق للقوة المشتركة لمجموعة الرعايا، باعتبارهم كائنات حية، على مستوى حياة السكان بوصفها ثروة للقوة المشتركة يتعيّن الاعتناء بها من أجل تكبيرها وزيادة حيويتها». ولئن كان فوكو أوّل من قارب النظرية، فإن كثيرين بعده دخلوا إليها وأضافوا إليها مثل جيورجيو أغامبن وطوني نيغري وروبرتو اسبوزيتو الذين تحدّثوا عن تلك السياسة، وخصوصاً في البلاد التي استعمرت من قبل المستعمر الغربي، ما أدى إلى «إبادة السكان الأصليين أو تدمير حضارات تاريخية» (كالمايا والأزتيك والإنكا وسواها). من هنا، ولأن موضوع الكتاب هو فلسطين، ذلك أن فلسطين مارس فيها العدو الصهيوني السياسات نفسها تحت مسمياتٍ مختلفة، فمشكلة «الكتلة البشرية» هي مشكلة «وجودية» لليمين واليسار في كيان الاحتلال. يعرف الفلسطينيون ويدركون أنهم خطرٌ داهم. وتطبّق دولة الاحتلال «السياسة الحيوية» بأفظع حالاتها في قطاع غزّة، «ولا سيما العمل الحثيث على إبقاء مجتمع غزّة على حافة الانهيار من دون دفعه تماماً إلى الهاوية».
تحويل الفلسطينيين في غزة إلى مجرد أزمة إنسانية أو وجود ديموغرافي من دون حقوق


يشرح الكتاب كيف يتصرّف الصهاينة بتدمير كلّ شيء: المرافق الصحية، والتعليمية، والمهنية، ومئات المباني السكنية، والمرافق العامة والخدمات والمنشآت الصناعية والزراعية والتجارية... تدمير «يهدف إلى تحويل الفلسطينيين في غزة إلى مجرد أزمة إنسانية أو وجود ديموغرافي من دون حقوق سياسية واقتصادية». وفي المقدّمة، يشرح ميشال نوفل كيف ظهرت فكرة الكتاب بدايةً بنقاشات مع غسان أبو ستّة الذي قضى عمره في مجال «طب النزاعات»، متقصّياً في الفصل الأوّل الأعمال الميدانية لأبو ستّة، فيما ينتقل بعد ذلك في الفصل الثاني إلى الحديث عن «حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزّة، لكون محنة القطاع تندرج في سياقات النكبة». إذ يمكن القول في ضوء حالة قطاع غزّة بأنه «أشبه بمخيم كبير للاجئين».