الدخول إلى ثقافة الطعام عند العرب هو بمثابة اقتحام قارّة كاملة يستوجب أن نستكشف صناعتها وأنواعها ونبحث في دلالاتها المعجمية مستعينين بالتاريخ والمعاني والمادة المعجمية والشواهد الأدبية والنوادر التاريخية. والأهم أن نطلق العنان لحواسنا فتجربة الطعام تجربة حسية تنفتح فيها الحواس بأكملها على المذاق واللون والرائحة والمنظر. ولعل المطبخ في كلّ حضارة هو المختبر الأول لإبداعاتها ونزعاتها الثورية أو المحافظة. يقول الموسيقار روسيني إنه كان مستعدّاً لأن يبادل إحدى مقطوعاته الموسيقية بطبخة شهية. لو جلسنا على مائدة عباسية في بغداد، ماذا كنّا لنجد أمامنا من طيب المأكل ولذيذ الشراب؟ وماذا كان الخليفة المعتصم سيطعمنا لو استضافنا على مائدته؟ وكيف كنا سنأكل السمك عند أهل الأندلس؟ وما كان حكم القاضي أبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري حين اختلف هارون الرشيد وزوجته حول اللوزينج والفالوذج؟ ما هي أسماء الأطعمة الكثيرة التي أغنت القاموس العربي؟ وهل المطبخ العربي يقلّ شأناً عن كل ثقافات الطبخ العريقة في العالم؟ وهل بقي للمآكل القديمة امتدادات في ما تطبخه أمهاتنا اليوم أو ما تقدمه المطاعم في الشرق والغرب؟ إنها رحلة نخوضها مع القارئ في «كلمات» في ثقافة الطعام العربية، لنعيد بعضاً من الاعتبار للأشياء الجميلة المهمَلة في تاريخنا الذي تجتاحه دبابة اليانكي ومطاعم ماكدونالدز على حدّ سواء
في وصايا يلزم الطباخ معرفتها
ينبغي للطباخ أن يكون حاذقاً عارفاً بقوانين الطبيخ، بصيراً بصنعته، وليتعاهد قص أظافره بحيث لا يحيف عليها، ولا يتركها تطول لئلا تجتمع الأوساخ تحتها، وليختَر من القدور: البرم ثم من بعده الفخَّار، وعند الضرورة النحاس المبيَّض وأردأ ما طُبخ في قِدْر نحاس قد نُصِل بياضها. ويختار من الحطب اليابس مما لا يكون له دخان ساطع كحطب الزيتون والسنديان وما أشبه ويتجنّب حطب التين فإنه كثير الدخان، وكل ما فيه نداوة، ثم يعرف مقدار الوقود، ويختار من الملح الأندراني، وإن لم يحضر فالملح النقي الأبيض الخالي من التراب والحجارة وأجوده ما حُلَّ وعُقِد، ومن الأبازير ما يُذكر: الكُسْفَرَة ما كان حديثاً أخضر اللون يابساً، ومن الكمُّون والكراويا كذلك، ومن الدارصيني ما كان خشبه ثميناً ملتفاً ذكي الرائحة واللسان، ومن المُصْطَكَى ما كان حَبُّه كباراً براقاً غير دقٍّ، خالياً من التراب والوسخ، ومن الفلفل ما كان حديثاً غير عتيق وكان حَبُّه كباراً. وليبالغ في تنقية سائر الأبازير وطحنها ناعماً، وكذلك في غسل الأواني المستعمَلة في الطبخ والقدور، وليضربها بالطين الآجُرِّ، ثم الأشنان والورد اليابسين المدقوقَين، ثم بورق الأتُرُجِّ الطري ويختَر لدقِّ اللحم هاوناً من حجر. وأما الأبازير فتُطحن في رحا طحناً ناعماً، وتُدق في هاون نحاس.

«مأدبة وسط الطبيعة» (1605-1628) - منمنم مجهول

وبالجملة فليعتمد تجويد دقِّ الأبازير وتنعيمها وغسل القدور والأواني مهما أمكن، ثم يُكثر من الأبازير في السواذج، وأكثر منه في القلايا والنواشف، في حلوها أكثر من حامضها، ويقلله في الحوامض ذوات الأمراق والأصل في الطبيخ كله إذا غلت القِدْر أن يبالَغ في أخذ الرغوة والزَّبَد ووسخ اللحم وما عساه يطفو على رأس القِدْر مع النفاخات الطالعة، وقبل ذلك غسل اللحم بالماء الحار والملح مما عساه يبقى فيه من دم أو وسخ، وتنقيته من الغدد والعروق والأغشية وتعريق اللحم في السواذج والقلايا بالدهن قبل سلقه، وأن يُترك الطبيخ حتى يهدأ على نار هادئة ساعة جدة قبل غرفه، وللبصل سكين لا تقطع بها شيء غيره فاعرف ذلك.
(كنز الفوائد في تنويع الموائد» ــــ مؤلف مجهول ــــ تحقيق مانويلا مارين وديفيد واينز، دار فرانتس شتاينر 1993)

في مطبخ الخليفة
في رواية عن الأحنف: دخلت على معاوية فقدّم إليّ من الحلو والحامض ما كثُر تعجبي به، ثم قدّم لوناً ما أدري ما هو، فقلت ما هذا؟ قال: مصارين البط محشوة بالمخ قد قُليَ بدهن الفستق وذُرَّ عليه الطبرزد، فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: ذكرتُ علِياً، بينما أنا عنده فحضر وقت إفطاره فسألني المقام إذا دعا بجرابٍ مختوم، قلت: ما في الجراب؟ قال: سويق شعير؛ قلت: خفتَ أن يؤخذ أو بخلت به؟ فأجاب: خفت عليه أن يلتّه الحسن أو الحسين بسمن أو زيت... واختلف الرشيد وزوجته زبيدة أم جعفر في اللوزينج والفالوذج أيهما أطيب، فمالت زبيدة إلى تفضيل الفالوذج ومال الرشيد إلى تفضيل اللوزينج فاحتكما إلى القاضي أبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري فقال القاضي أنا لا أحكم على غائب فأمر باتخاذهما وتقديمهما إليه، فجعل يأكل من هذا مرة ومن ذلك أخرى حتى نظّف الجانبين، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أجدل منهما، إن أردت أن أسجل لأيهما أدلى الآخر بحجة... وكان المعتصم إذا أكل السمك كما يقول ابن ماسويه: «اتخذنا له أصباغاً من الخل والكروبا والكمون والسذب والكرفي والخردل والجوز فأكله بذلك الصباغ، فيدفع أذى السمك وأضراره بالعصب، وإذا أكل الرؤوس، اتخذت له أصباغ تدفع أذاها وتلطفها، وكان في أكثر أمره يطلب غذاءه بمشورتي»... وكانت نفقات مطابخ المتوكل مائتي ألف دينار وكان المتوكل يدفع أرزاق الصّفاعنة والمضحكين والكبّاشين، والدياكين، وأصحاب كلاب الحراش، والصراطين: خمس مائة ألف درهم. وختن المتوكل ابنه المعتز بالله، كان في صحن الدار بين يدي الإيون أربعمائة بليّة عليهنّ أنواع الثياب، وبين أيديهنّ ألف نبيحة خيزران فيها أنواع الفواكه والأترج والنارنج على قلته كان في ذلك الوقت والتفاح الشامي والليمون وخمسة آلاف باقة نرجس وعشرة آلاف باقة بنفسج.
(المطبخ العربي، قيس كاظم الجنابي، الانتشار العربي 2019)

ولابراهيم بن المهدي ولع بالطعام، وهو موصوف بهذا الولع حتى كانت سمنته مثار تندّر المأمون الذي يرده بعيداً عن العشق وهو على هذه الحال. فهو يتقن «المضلية» من لحم الحمل، وله في المدققات الكثير الذي تفرد له الصفحات. والمهلبيات للمهدي، وللمكتفي أكلة خبيص بالجوز، وسميت أكلة فالوذج بأكلة الخلفاء حسب ما ورد في توصيفها. وعرفت طريقة شي الحملان في التنور ليحيى بن خالد، فتميزت وشاعت. بينما أعدت «الطباهجة» له أيضاً، وكذلك بطريقة أخرى من قبل طباخة الواثق. وهناك قلايا من اللحوم والألبان أعدت للمعتمد، ومقلوبات ومدققات من اللحوم أورد صفتها اسحق بن الكندي. ولاسحق بن ابراهيم الموصلي شأنه في هذا الميدان، فله في صناعة السوادج والمخللات الكثير، وله أيضاً نباطية بلحم الدجاج، ونارباجة. وعملت للمأمون حماضيات ورمانيات، وعملت له زيرباجه من فروج وصفت بإسهاب وأناة. وهناك مشروبات كمشروب التفاح الذي خصّ به المتوكل.
(«كتاب الطبيخ»
لابن سيار الوراق، دار صادر)

قائمة طعام مائدة بغدادية فخمة
خوانٌ ذو قوائم نُحتت من خشب الخلنج الخراساني، يشتغل الإنسان بالنظر إليه عن الأكل. فوقه رُغفان عليها الحبّة السوداء.
صحاف صينية «سكاريج» ملوّنة فيها:
-الجبن الدينَوَري الحِريف الذي يَفتق الشهوة.
-زيتون دَقوقي مخلوط باللوز المقشّر والصعتر؛ تنشطر الزيتونة على الرغيف فتملؤه زيتاً، ويتدحرج كأنه بنادق عنبر.
-جبت رومي مقلو، تأكل القالب برغيف فلا ينفخ ولا يعطش.
-الجوز المقشَّر الأبيض الحديث الذي طعمه أحلى من العافية في البدن.
-خيار بخلّ.
-باذنجان مخلّل معمول بماء حَبّ الرمان، يضرّس قبل أن يؤكل.
صحاف «سكاريج» بلّور، بها:
ماء الليمون، ماء الحصرم، ملح داراني كالفضّة المسبوكة، اللوز المرضوض، الفستق المقشور، السمسم المقلو، كمون كرماني، بصل مراغي.
غضائر البوارد، بها:
فراريج كَسكَرية، وكُبود الدجاج المسمّن، وصدور البطّ بماء التفاح وماء حب الرمان والتوت الشامي، ودجاج بالجلّاب، ولبّ الفستق واللوز والكرويا، وحمّاض الأترج والليمون.
غضائر فيها:
الأسماك المملّحة المتنوعة، من شبّوط وينّي وسُرّة وقاش
من الشواء:
بطوط كسكرية، جداء صرصرية، دجاج مسمّنة هندية، حملان رضّع تركمانية، مدورة، طولها وعرضها واحد، فراخ مسمنة.
تحت ذلك: جوذابة خشخاشية، وجوذابة الرقاق، وأرز بلبن حليب قد ترك فيه الزعفران وذُرَّ عليه سكّر مدقوق. زلابية قاهرية، وزلابية محشوة بدهن الفستق.
مائدة كأنها عروس محلية محفوفة بكل طريفة، فمن قانئ بإزائه فاقع، ومن حالك تلقاءه ناصع، الحدا في حمرة الورد، (وغيرها) في بياض القباطي.
ويرفع الطعام، ويأتي فرّاشٌ متهلل الوجه، نظيف الثياب، حسن الشمائل، خفيف الروح، بيده خلال سلطاني مقوّم كأنه مراود الفضّة، فيتناول منه الجميع بتلطّف.
ويقدّم أشناناً أبيض وصندل مقاصيري، وذريرة المسك والكافور، وحبّات الورد الحوري، سلطانيّاً ملوكياً، يرغي كما يرغي الصابون، ويزيد كالسدر.
ويُقدّم طشت شبَه (نحاس أصفر) عديم الشّبَه، وإبريق نُقرة (فضة ممزوجة بنحاس) قطعة واحدة من الطراز الأول، معتضديّ، مخنّق، مليح العروة، أنبوبته منه، فيغسل القوم أيديهم، ويناولهم منديلاً دبّيقي مخمل متوكليّ طرازيّ عَمل مصر.
(الرسالة البغدادية، تحقيق عبود الشالجي، منشورات الجمل).

الطعام في ألف ليلة وليلة
- مروقة زيتونية.
- فاكهة، كالتفاح والسفرجل والخوخ والياسمين
والخيار والليموني و«اترنج» وعرسين وريحان وتمر حنا واقحوان (ومنتور وسوسان) وزنبق وشقايق النعمان، وبنفسج وبهار ونرجس وجلنار، مع أنواع من كل صنف.
- لحم ضأن.
-عصفور مالح وزيتون مفشوخ وزيتون مكلس وطرخون وقنبريس وجبن شامي ومخللات مملاة وغير مملاة.
– قلب فستق وزبيب وقلب لوز وقصب عراقي وملبن بعلبكي وقلب بندق وحمص.
- حلوى قاهرية ومشبك بيلقانية وقطايف بالمسك محشية ودلالات أم صالح (سرخية) و(سكب عثمانية) ومقرضة وصابونية وأقراص ومأمونية وأمشاط العنبر وأصابع (بانيد) وخبز الأرامل وبسندود ولقيمات القاضي و(كل واشكر) و(قميعات الظرفا وكشيكات الهوى).
-عطاريات: ماء نوفر (ابلوجين سكر) وماء ورد ومسك (وحصا لبان) وعود وقطع عنبر
- فانوسيات شمع وطوافات
(حكاية الحمّال والصبايا الثلاث، ألف ليلة وليلة، دار ومكتبة الحياة).

مقبلات ومآكل دمشقية
- أبو شلهوب
يُصنع من البرغل والباذنجان والكرنب والكزبرة والثوم، يُقطَّع الباذنجان بقشره قطعاً صغيرة، ويُقلى بالسمن، وبعدها يُقلى الكرنب بعد تقطيعه أيضاً قطعاً صغيرة، ويضاف إليه كمية من الماء حتى ينضج، وبعدها يضاف إلى الباذنجان والكرنب كمية البرغل، وتُترك حتى تنضج جيداً.
أرنبية
وتُعرف عند أهل الشام بـ «الفاختية» وتُصنع من اللبن والطحينة وعصير الرمان والحِمَّص، والقرنبيط، ويضاف إلى ذلك أقراص الكبَّة، ويكون حجم القرص صغيراً.
طريقة الصنع: يُغلى اللبن وبعدها يضاف إليه الطحينة مضافاً إليها عصير الرمان، وتوضع على النار من جديد، وبعدها يضاف إليها مقدار من الحِمَّص المسلوق، والقرنبيط المسلوق مُقطَّعاً قطعاً صغيرة وبعدها يُضاف إليها أقراص الكبَّة، ونُبقيها على النار مدة لتنضج أقراص الكبَّة، بعدها تُرفع من على النار، وتُسكب في الأواني، ويوضع على وجه الأواني القرنبيط المسلوق للتزيين، والكزبرة مضاف إليها الثوم بعد قليهما بالسمن وتُترك على النار مدة قليلة وتُرفع من على النار.
- حمص كسا
يسلق ويؤخذ الحمص الطيب الأنثى المسلوق يحطّ في جفنة ويقتل بالمغرفة جيدا إلى أن يدخل بعضه في بعض. ثم ينزل من منخل ويرمى تفله. فإذا ينفع يدخل الليمون المالح، يفرم رفيعاً ويدقّ في الجرن، وإيّاك أن يكون فيه شيء من حبّه. ثمّ يوضع على هذا الليمون زيت طيّب والطحينة ويحرّك جيّداً، وينزل عليه قليل خلّ خمر وأطراف طيب وسذاب ونعناع ويسير كمّون مدقوق ومنخول. ثمّ تحرّك الحوائج وترمي الحمص عليها ويحرّك ويبسط في الزبدية ويشهل بالزيتون الأسود والمخلل وقلب البندق المحمّص وأطراف الطيب وقليل للسذاب والنعناع.
- السِّكْبَاج
وصنْعته أن يُقطَّع اللحم السمين أوساطاً، ويُجعل في القِدْر، وغمرُه ماءً، وكُسْفَرَة خضراء، وعود دارصيني، وملح قدر الحاجة، ثم إذا غلى تُخرج رغوته وزبَده بالمغرفة ويُرمى، ثم يُجعل عليه كُسْفَرَة يابسة وتُنحَّى عنه الخضراء، ثم يؤخذ البصل الأبيض والكُرَّاث الشامي والجزر (إن كان أوانه)، أو الباذنجان، ويُقشَّر الجميع ويُشَق البذنج صليباً ويُسلق فيقِدر أخرى في ماء وملح نصف سلقة، ثم يُنشف من مائه ويُترك في القِدْر فوق اللحم، وتُلقى عليه الأبازير ويُعدَّل ملحه فإذا قارب النضج يؤخذ خلُّ خمرٍ ودِبس، ومَن أحب جعل العسل، إلا أنها بالدِّبس أليق، وتُمزج مزاجاً معتدلاً في الحموضة والحلاوة، ثم يُصبُّ في القِدْر فتُغلى ساعة، فإذا أراد قطع النار أخذ من المرقة قليلاً ودافَ فيه قدر الحاجة زعفراناً وصبَّه في القِدْر، ثم يؤخذ لوز مقشَّرحلو مفرد بنصفين، ويُترك في رأس القِدْر مع يسير عُنَّاب وزبيب وتين يابس، وتُغطى ساعة حتى تهدأ على حموة النار، وتُمسح جوانبها بخِرقة نظيفة، ويُرش على رأس القِدْر ماء ورد، فإذا هدأت على النار رُفعت.
لبنية
صنْعتها: أن يُقطَّع اللحم ويُلقى في القِدْر مع يسير ملح ويُغمر بالماء ويُغلى حتى يقارب النضج، فإذا تعرَّق في دهنه ونشف عنه أكثر الماء، ألُقيَ عليه البصل والكُرَّاث المُقطَّع المغسول والبذنج المشقوق صليباً الذي قد سُلق في قِدر مفردة نصف سلقة، وبعده الكُسْفَرَة اليابسة والكمُّون المدقوق والمُصْطَكَى وعيدان دارصيني وطاقات نعناع، ثم يُغلى في باقي مائيته حتى يتم نضجه، ويُطرح عليه لبن فارسي قد جُعل فيه ثوم مدقوقاً، ويُفرك في رأس القِدْر طاقات نعنع يابس وتُمسح جوانب القِدْر بخِرقة وتُترك على النار حتى تهدأ ساعة ثم تُرفع.
(كتاب الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية، محمد بن الحسن البغدادي، مؤسسة هنداوي 2017 ــــــ كنز الفوائد في تنويع الموائد - مؤلف مجهول - تحقيق مانويلا مارين وديفيد واينز، دار فرانتس شتاينر 1993)

مآكل مغربية أندلسية
السمك المشوي والسمك المطبوخ في الرماد
ذكر اسحق بن سليمان شيّ السمك وبيَّن أن السمك المشوي يحتاج مثل المقلي إلى الزيت والمرّي. وأشار إلى طبخ السمك الصلب اللزج اللعابي بالدفن «في رماد حار حتى تذهب سهوكته وزفورته ويطيب بالخل والخردل والفوذنج الجبلي والزنجبيل والفلفل»، ونصح صاحب المزاج الرطب باتّخاذ السمك مشوياً مطيّباً بالخل الحاذق والمريّ والشراب القوي والصعتر والفوذنج والزنجبيل والفلفل. وأورد ابن رزين ألواناً من السمك المشوي على الجمر أو في السفّود ويستعمل الصبّاغ لأكل المشوي ويكون زيتاً وثوماً مدروساً وقد يشوى السمك ويحمّر في الفرن.
(سهام الدبابي الميساوي، مائدة أفريقية، المجمع التونسي للآداب والفنون، 2017)

الكسكسي
إن الطهو على البخار معروف في شمال أفريقية منذ زمن سحيق، ولكن الكسكسي الجدير باسمه يُهيّأ من القمح الصلب، وهذا النوع من القمح لم يدخل بلاد المغرب قادماً من الحبشة، موطنه الأصلي، إلا في القرن العاشر، ومن المغرب انتقل إلى الأندلس عبر البحر المتوسط. ولذا فلا عَجب في أن لا نجد أي إشارة إلى الكسكسي في «كتاب الأغذية» لإسحق بن سليمان (ت.٩٣٢)، وهو طبيب يهودي مشهور عاش في القيروان واهتمّ عن كثب بالحنطة ومشتقّاتها. وليس في تونس أيّ مرجع عن الكسكسي في عهد الزيريّين، أي حتّى منتصف القرن الثاني عشر، ولا في عهد الموحّدين، ولم يرد ذكره إلا في أوائل عهد الحفصيين (١٢٢٨-١٥٧٤) كذلك الأمر لم يكن السميد المفروك بالطحين أي الكسكسي كما نأكله اليوم معروفاً في إسبانيا أثناء الخلافة الأموية في قرطبة ولا في أيام ملوك الطوائف، لكنه حظي بمكانة كبيرة في أواخر عهد الموحدين، في القرن الثالث عشر ثم في عهد ورثتهم النصريين، وذلك بفضل القمح الصلب الذي صار يُزرع في الأندلس. ويؤكد مؤلَّفان في فن الطبخ، أحدهما لابن رزين المرسيّ، والثاني لمؤلِف مجهول، وكلاهما من القرن الثالث عشر، أهمية الكسكسي في غذاء شعوب المغرب الإسلامي.
لابراهيم بن المهدي ولع بالطعام، وهو موصوف بهذا الولع حتى كانت سمنته مثار تندّر المأمون الذي اعتبره بعيداً عن العشق وهو على هذه الحال

ندين للأول، بالإضافة إلى الوصفة المعروفة للكسكسي بالخضراوات (اللفت والجزر والفول الأخضر والباذنجان والقرع)، بالكسكسي بالجوز المطحون والكسكسي بالفول اليابس، وكذلك بأكلة مدهشة هي الحَمَل المحشو بالكسكسي والمطهوّ في الفرن، أما الثاني، فهو يصنّف الكسكسي بذكاء في عداد الثريد، ويعلّمنا وصفة لمرقٍ بالثوم والخلّ والزعفران والكمّون يُمكن أن تُسكَب على الخبز المفتّت أو على الكسكسي... فيجب أن تكون حبيباته ناعمة متساوية الحجم، منفصلة بعضها عن بعض، مشبعة بالعصارات والمعطّرات، ويتطلّب هذا الكثير من البراعة والصبر في طريقة التحضير. يُفرك السميد والطحين أوّلاً في قعر طست، براحة اليد، ثمّ ينخّل الكسكسي في غربالين، أحدهما ذو ثقوب صغيرة، وذلك لمعاينة الحُبيبات بحيث تتساوى حجماً. تُطهى الحبوب بعد ذلك على بخار ماء صاف ثمّ تُفرَش على ملاءة وتُجفّف تحت أشعة الشمس، على أن تُقلّب بين الحين والآخر. أمّا طِباخة الكسكسي، فقاعدتها الذهبية وضعه في مصفاةٍ فوق بخار مرق اللحم والخضار ثمّ ترطيبه بالماء البارد وتهويته باليدين، وإعادة الكرَّة مرة أو مرّتين. وقد جرت العادة على إعداد المرق بالخضروات ولحم الضأن. ولكن لا تخشوا من تجريب الكسكسي بالبصل والحمّص والزبيب، أو باللبن الرائب أو بالسمك، أو بالكرشة، أو بالدجاج المحشو، أو بالقرنيّات، أو بالقديد، وقد تفضّلون المسفوف، أي الكسكسي المحلى بالسُكّر.
(فاروق مردم بك، مطبخ زرياب، منشورات كلمة، ٢٠١٥)

في بعض أنواع التحلية
- لوزينج
يؤخذ رطل سكر فيُسحق ناعماً، ويؤخذ ثلث رطل لوز مُقَشَّر فيُسحق أيضاً ناعماً، ويُخلط مع السكر ويُعجن بماء الورد، ثم يؤخذ من الخبز المرقَّق كخبز السنبوسك، وإن كان أرقَّ فهو أجود، فيُبسط الرغيف من ذلك الخبز ويُجعل عليه اللوز والسكر المعجون، ثم يُطوى كالسير ويُقطَّع قطعاً صغاراً ويُصَف، ويُخلع الشَّيْرَج الطريُّ حسب الحاجة، ويُجعل عليه، ثم يُغمر بالجلَّاب الذي قد أضُيفَ إليه ماء الورد، ويُنثر عليه الفستق المدقوق ناعماً.
- فالوذج
يؤخذ رطل سكر وثلث رطل لوز، فيُدَق الجميع ناعماً، ثم يُطيَّب بالكافور، ويؤخذ ثلث رطل سكر فيذاب بنصف أوقية ماء ورد على نار هادئة ثم يُرفع، فإذا أفترت حرارته طُرح عليه السكر واللوز المدقوق، وعُجن به، فإن احتاج إلى تقوية زِيد سكراً ولوزاً، ثمّ يُعجن عجناً قويّاً ويُعمل منه أوساط ويُطبخ وشوابير وغير ذلك، ثم يُصَف في صحن أو طبق ويُستعمل.
- صابونية
عملها أن يُحلَّ السكر، ثم يُرفع من الدست ويُجعل في إناء، ثم يُطرح الشَّيْرَج، فإذا غلى طُرح عليه بعض الجُلَّاب، ولكل رطل سكر أوقية ونصف أوقية عسلاً ويُحرَّك، فإذا قارب الانعقاد ديف النشاء بماء وألُقيَ عليه وحُرِّك، ثم لا يزال يُسقى باقي الجُلَّاب إلى أن ينعقد، ثم يُطرح عليه لوز مُقَشَّراً مدقوقاً ناعماً، فإذا استحكم نضجه غُرِف في صحن، وبُسط ونُثر عليه السكر المدقوق ناعماً المطيّب.

من شعر الطعام
- أبو الهندي
أكَلتُ الضِبابَ فَما عِفتُها    وإنّي لأَهوى قَديد الغَنَمْ 
وَلَحمَ الخَروفِ حَنيذاً وَقَد   أَتيتُ بِهِ فاتراً في الشَبَمْ 

■ ■ ■

- النميري في ابنة عمه زينب
كأن القرنفل والزنجبيل وريح الخزامى وذوب العسل
يعلّ به برد أنيابها إذا ما صفا الكوكب المعتدل
■ ■ ■

- حاتم الطائي
إِذا ما صَنَعتِ الزادِ فَاِلتَمِسي لَهُ أَكيلاً فَإِنّي لَستُ آكِلَهُ وَحدي
أَخاً طارِقاً أَو جارَ بَيتٍ فَإِنَّني أَخافُ مَذَمّاتِ الأَحاديثِ مِن بَعدي
وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ ثاوِي وَما فيَّ إِلّا تِلكَ مِن شيمَةِ العَبدِ

في نوادر الطعام
• قيل لإبراهيم بن سيار: هل رأيت شيئاً واحداً يشتمل على عامة الطيبات؟ قال: النحلة، والشاة: منها اللبن، والجذا، واللبأ، والزبد، والسلاء، ثم الجبن والمصل والرخفة واللوقة، والأقط والشيراز والكوامخ والمضيرة، والمصلية والكشكية والغربية وغير ذلك، كذا قال الجاحظ عن إبراهيم.
• قال بزرجمهر: في البطيخ عشر خصال: هو ريحان، وتحية، وفاكهة، وأدام مقنع، وخبيص مهيأ، ودواء للمثانة، وحرض للغمر والزهومة، ومذهب لرائحة النورة عند الاستحمام، وكوز لمن عسر عليه ما يشرب فيه، وهاضوم الثقيل من الطعام.
• قال فيلسوف: أربع خصالٍ يهدمن العمر وربما قتلن: دخول الحمامّ على بطنةٍ، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجافّ، وشرب الماء البارد على الرّيق.
• أكلَ أعرابيٌّ من بَني عُذرة مع معاوية، فجَرفَ ما بينَ يَدي مُعاويَة ثُم مَدّ يَدَه ها هُنا وها هُنا، ثمّ رَأى بين يَدي مُعاوية ثَريدة كَثيرة السّمن فجرَّها، فقال مُعاوية: «أخرقْتَها لتُغرقَ أهلها»، فَقال الأعرابيّ: لا ولكِن «سُقناهُ لبلدٍ ميّتٍ».
• قال بعض السلف: اللحم من اللحم، ومن تركه أربعين يوماً ساء خلقه، كلوه فإنه يزيد في السمع والبصر.
• كتب كشاجم إلى بعض إخوانه يصف طباخاً، فقال: «كان عنوانَ النّعمة، وترجمان المروءة، وواسطة القلادة، فلَهفي عليه، فلقد كان قوام جسمي، وزيادة شهوتي، وممتع زوّاري وأضيافي، أحذق أهل صناعته، وأبينهم فضلاً، وأرهفهم سكيناً، وأعدلهم تقطيعاً، وأذكاهم ناراً، وأطيبهم يداً، ما أكاد أقترح عليه شيئاً إلا وجدته قد سبقني إليه، معبّ للموائد، ملبك للثرائد، مع كل حار وبارد، كأن مائدته رياض مزخرفة، أو برود مفوّفة، مرتّب للألوان، منظف للخوان، لا يجمع بين شكلين، ولا يوالي بين طعامين، ولا يغرف اللون إلا وضدّه، ينضج الشواء، ويحكم الحلواء، ويخالف بين طعام الغداء والعشاء، يكتفي باللحظة ويفهم بالإشارة، ويسبق إلى الإرادة، كأنه مطّلع على الضمير من الزائر والمزور.
• قال ابن الأعرابي عن المفضّل: تقول العرب: يدك من اللحم غمرة، ومن الشحم زهمة، ومن الزيت قنمة، ومن الدهن نمسة، ومن الخلوق ردعة، ومن الحناء عصمة، ومن اللبن ضرة، ومن السمك صمرة، ومن الحديد سهكة.
• خطب رجل امرأة فقالت: إن في تقززاً، وإني أخاف أن أرى منك بعض ما أتقزز منه فتنصرف نفسي عنك، فقال الرجل: أرجو أن لا تري ذلك، فتزوجها؛ فمكث أياماً ثم قعد معها يتغدى، فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان فأكله، فنظرت إليه وقالت: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتى تلتقط ما تحته؟ قال: إنه بلغني أنه يزيد في القوة على النيك، فكانت بعد ذلك تغافله وتفتت له الخبز كما تفتت للفرّوج.
(البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي، تحقيق وداد القاضي، دار صادر)