-1 صيّادون في المرسىاقتربتُ الآنَ منكم
كي أراكم هاهنا في الماءِ
في المرسى
نحيفينَ
كسنّاراتكم
في الريحِ تنسابونَ
وتنزلقونَ خفافاً،
الموجُ هاديكمْ
ومرشدكمْ
بهذا التيهِ،
فالمجهولُ زادٌ لكمْ
والسديمُ علامةٌ
والأفْقُ نايٌ
والنجومُ شرابٌ،
غداً تصلونَ
ترمون إلى الإكسيرِ شصّاً
شِباكاً
حين ينجابُ
شجىً وضبابُ.

ادوارد مونخ ـــ «ميناء بيرجن» (زيت على كانفاس ـــ 60 × 90.2 سنتم ــــ 1916)


-2 فتاة الأنترناسيونال
عبر الأفريز الممتدِّ
لمقهى الأنترناسيونالْ
مرَّتْ فاتنةٌ
في الصدرِ يُرى
غابٌ افريقيٌّ
وطبولٌ
يهتزّ النهدان لها،
في الحاجبِ
ثمّة ليلٌ ريفيٌّ من تونسَ،
ثمّة في الأهدابِ
حقولٌ ترتعشُ،
وثمّة ظلٌّ
يتدلى من جَفنٍ أكحلَ،
ويُرى جزءٌ
من بحر في الخصرِ،
يميدُ ويتركُ زرقَتَهُ
والأملاحَ على البنطال الجينز ــ
الهيد فونْ
بأذنيها يجعلها تتمايلُ
في الريح الأولى من آذارَ،
قميصُ القطنِ عليه نتفٌ
من هالاتٍ،
خلطتْ في تطريز شرقيٍّ،
راح يؤوِّلُ لي مشهدها
وهي تطقطقُ
بحذاء يبدو كالصنْجِ،
يُديرُ الرأسَ إليها
حتى تتوارى
خلف ترامٍ مرّ بآخرة الشارعِ،
وأنا في المقهى
أجلسُ حيرانَ،
أمامي كأسٌ
من حزنٍ حارٍّ
فيه مكعَّبُ ثلج.

-3 نُزْل في الحمّامات
النزْلُ شبيهٌ بالقلعةِ،
يتَّكئُ على رائحة البحرِ
فيرفدُه بهواءٍ رقراقٍ،
بشموس خضراءَ،
برملٍ يمتدُّ
من الميناءِ عليهِ
اسمطةُ الحصباءِ،
تصيرُ سجاجيدَ ملوّنةً
بالمحَّارِ يزيّنُ جبهته..
النزْلُ شبيهٌ بالحِصنِ
تنامُ بحيراتٌ فيهِ،
وينعسُ نخلٌ بين الأحواضِ،
النزْلُ استوحى طُرّاتٍ،
طُرُزاً من أندلسٍ مطمورٍ،
من عَبَقٍ عباسيٍّ،
ليظلّلَ روّاداً هجعوا
فوق صواري البحرِ
وناموا محتلمينَ
بأزمنة أخرى
قائمةٍ في الماءِ،
نأوا في المجهول إذاً
مغتسلينَ بحمّاماتٍ من نورْ
مصدرها
ذهبٌ فوّارٌ في الليلِ
ومرجعها في الصبحِ
الفضَّةُ والمنتورْ.

-4 شارع بورقيبة
الأشجارُ اتّسقتْ في الشارعِ
كي تتعملقَ
كي تتماسَّ
مع نجمٍ أخصرَ
غار بعيداً في المجهولِ،
الأشجارُ انتعلتْ ماءً
وانتقبتْ بالشمسِ،
مُهيَّأةً لاستقبال المارّةِ..
تدخلُ هذي البهجةُ
لابسةً أثوابَ مُفوَّفَةً
مع قبعة من مخملْ
وحذاءٍ ذي كعبِ عالٍ،
البهجةُ سيدةٌ من تونسَ،
تتصفّحُ أوجُهَنا عبر زجاج المقهى،
تطلبُ كوكتيل فواكه
ثمّ تُسرِّحُ في الأفْقِ النظرةَ
صوب الأشجار المصطفّةِ
في شارعِ بورقيبه..
يدخلُ رجلان المقهى
الأولُ يطلبُ شاياً بالنعناعِ،
الثاني يختارُ شرابَ اللوز الأبيض،
الاثنانِ ارتشفا الأكوابَ..
هما انحدرا
من هانيبعلَ
وهرقلَ،
ثمّ انتبذا هذا الركنَ
بمقهى الكونِ،
غريبانِ هما
في هذا العصر المتسارعِ،
بثَّا نظراتٍ خضراءَ
إلى الأشجار الواقفةِ
على طول الشارعِ متسقاتٍ
يحملنَ هوىً
وروائحَ بحريةْ..
البهجةُ أبصرها
جائيةً
ذاهبةً
بين الشارعِ والمقهى،
بينا الرجلان ارتحلا
نحو جنانٍ سفليَّةْ.

-5 مراياها
المرايا الصغيرةُ
في يدها
في الحقائبِ
والكومِيدينا
وقرب وسادتها
تتكاثرُ هذي المرايا،
إنها نتفٌ من نيازكَ
من شُهُبٍ..
في الصباحاتِ تنهضُ سيِّدتي،
لتقيسَ النُّهَيْدَ
والرَّدفَ والخاصرة.

-6 أمشاطها
أمشاطها من فضَّةٍ
أو من خشبٍ،
فيها روائحٌ
من غابةٍ،
أمشاطها
تُمَشّطُ الريحَ
تَمْشِط الليلَ
تُسدلُ العتْمةَ
في ضفيرةٍ من شَعرها،
أمشاطها فيها صباحها
والشمسُ والبستانْ
على السطوحِ
سرَّحَتْ شَعرها جديلةً
حتى انتأتْ
فمسَّ شَعرُها
منازلَ الجيرانْ.

-7 كشتبانها
في يدها
الخيطُ
ثَمّ
إبرةٌ
والكشتبانْ
هي الآنَ
تخيِّطُ الفوضى
تخيِّط الأزمانْ
تعيدُ مجدَ فجرها
إلى أعماقها
تقولُ:
هذه أنا
بإبرتي ادرزُ ثوبَ عاشقي
وأجلبُ البحرَ
لكي يصخبَ في يدي
وينزفَ الألوانْ.

-8 قلائدها
قلائدها
في الزوايا مبعثرةٌ
من صناديقَ فضيّةٍ تتدلى القلائدُ
بارقةً في الظلامِ،
القلائدُ في الليل تسهرُ
موغلةً في الصَّدَفْ
مطعّمةً بعقيق بخارى
وتمهُرُها غالباً
شَذراتُ النَّجفْ.

-9 خلخالها
خلخالها الفضيُّ
في القدمْ
يُرقِّصُ الأرضَ
يُحرِّكُ الجبالَ
من مكانها
وينثرُ النغمْ
على بلاطة البيتِ
وفي الشارعِ
والسوقِ،
والرنَّةُ فيهِ
تُفرحُ الشجى
وتثلمُ العدمْ.

-10تصاويرها
تصاويرها
تملأ الآن
هذا الجدارَ،
تُرى في المرايا،
بألبومها تتكاثرُ،
تملأُ صالتَها والممرَّ،
هنا في جوار تصاويرها
صورُ المطربات،
ممثلة بالثياب القصيرةِ
تلتهم المايكرِفون
وصورةُ عاشقِها خُبِّئتْ
في قماش المناهدْ.

-11 أوشامها
أوشامها
تطلسَمتْ في جسدٍ
مشتعلٍ بالسحر والغموضْ
فوشمها يُدافُ في مسامِّها،
أوشامها مدعوكةٌ في الجلدِ
في الروح تغوّرتْ
وارتسمتْ شذريةً
مطعونةً
زرقاءَ
رمانيّة الرُّضوضْ
فهذه الطلاسمُ التي تُحيطها الرُّقى
تشعُّ في الجلدِ كهالةٍ،
تُنذرُ بالخضابِ والفيوضْ.

(*) قصائد مُجْتَزَأَةٌ من ديوان بالعنوان نفسه صدر حديثاً عن «دار أروقة»، القاهرة، 2019.