يرتبط عنوان رواية روزا ياسين حسن الجديدة «بين حبال الماء» («دار سرد» و«دار ممدوح عدوان») بحالة من حالات بطل الرواية «تموز» الذي تتغير أحواله في كلّ مرحلة يمرّ فيها. يدخل في دوّامة الحفاظ على حياته في قاع البحر نتيجة محاولاته إنقاذ امرأة وابنها بعد انقلاب القارب الذي يقلّ مهاجرين سوريين، لكن الخوف الذي ينتاب المرأة يجعلها عبئاً عليه حيث تشده إلى الأسفل كلّما حاول إنقاذها رغم أنه يجيد السباحة. هذا ما جعله يبتلع المزيد من المياه، فدخل في غيبوبة، بينما يبعدها عنه. لكن الرواية مليئة بعوالم متغيّرة تتناسب مع سرعة وحركة ثورة الاتصالات التقنيّة. تبني الروائية السوريّة شخصيّة بطلها تموز عبر حلم دراسة الإخراج السينمائي في كوبا، الذي يتبدّد بسبب الصعوبات الماديّة. لهذا، يذهب تموز إلى دبي للعمل في مهن عدة من أجل جمع المال للدراسة، لكنّ الحياة هناك تجعل من حلمه بعيد المنال: «كان وضعي في العمل في مطعم «المكدونالدز» في دبي يزداد سوءاً! لكن لم أكن أعدّ الطعام أو أتابع عمل العمال، إنما أراقب الناس، المارة، المتشردين، أراقب كل شيء من حولي إلا الطعام! وأراقب سكارليت كذلك، تلك الموظفة الصينية الصغيرة التي كان كلّ شيء فيها صغيراً إلا روحها، فقد كانت أوسع من محيط». كذلك كان يعدّ مشاهدة الأفلام عبر شاشة كومبيوتر أبشع من خيانة حبيب يعيش في مسامات جلدك ويتنفس روحك ذاتها.


تزداد معوّقات حلم تموز عندما يقرّر أن يترك العمل في المطعم، ويبقى في غرفته الصغيرة ويحلم بجده سهيل الذي يقرر أن يسميه «سهيل زوربا». يفكر تموز بالانتحار، ويتذكّر بكاء عمته أمام سريره في المشفى بعدما حاول الانتحار. لذلك يخرج من غرفته إلى البشر الآسنين الراكدين كمستنقع عن طريق صديقه أشرف الورّاق، الذي يعرفه إلى فاروق الشامي، قبل أن ينتقل تموز إلى شقة أشرف ومعه طوطمه الأرجواني الدائري فيلم «مزرعة الحيوانات».
إن المعادل البصري لحياة تموز هي الأفلام. إذ نجد كمية كبيرة من مشاهدة الأفلام في مشاهد بصرية حياتية تعيش بداخله إلى درجة اقتباس جزء من بعضها في متن الرواية. وإذا كانت البداية بفيلم الياباني أكيرا كوروساوا «أحلام» (1990)، فإنّ الرواية تصل إلى 40 فيلماً موثقة داخلها آخرها «أحدهم طار فوق عش الوقواق» للتشيكي ميلوش فورمان. من هنا يظهر أن المعادل البصري السينمائي في الرواية كبير جداً، حتى من خلال استعادة الحالات البصرية في شخصية الجد «سهيل زوربا»، وكذلك من خلال الربط البصري السينمائي في شخصية تموز، إذ نجد أن السرد في الرواية يعتمد على تقنية تداخل القص ما بين الواقعي والسينمائي، ما يجعل من تموز نفسه بطلاً سينمائياً متخيّلاً في رواية واقعية تحدث أمامنا حول شخصية واقعية متخيلة. ويتجسد ذلك في مشهد غرق تموز وسط البحر: «كنت أغوص، أشعر بالانزلاق من دون سقوط، أنا (جاك الفرنسي)، الراقص مع الدلافين، أهبط إلى قاع البحر حيث المياه ليست زرقاء كثيراً، والسماء هي فقط للذكرى». هكذا يحضر جاك بطل فيلم «الأزرق الكبير» للوك بوسون أثناء لحظة غرق تموز. يوجد سرد آخر استخدمته حسن هو كتابة سيناريو ثلاثة أفلام قصيرة. هنا، أصبحت الكتابة السينمائية جزءاً من العمل الروائي، إذ أن السردية السينمائية المكتوبة تجعل من إمكانية إيجاد المعادل البصري فعلاً سردياً بذاته.
الروائية التي تنوّع نتاجها الأدبي في السابق ما بين القصّة القصيرة والرواية والصحافة المكتوبة، تتعمّق في تحوّلات شخصية بطلها خلال لهاثه خلف حلمه. يأتي تحوّل السردية في شخصيّة تمّوز، مجرّد انتقال من عالم السعادة إلى عالم الشقاء. بداية من الدور الذي يلعبه الجد سهيل في حياة الطفل حيث يأخذه مرة في الشهر إلى «المدينة القريبة وإلى سينما الكندي بشكل خاص... هناك في وسط الصالة المعتمة والشاشة الكبيرة... أمكنني أن أعيش ما تعيشه شخصيات الأفلام...». مع هجرته إلى دبي، تتعدّد أوجه الشقاء التي يعيشها تموز، من عدم إيجاده فرصة عمل مناسبة، إلى مكان الإقامة في غرفة.
سيرة اللجوء السوري والهرب إلى مصائر مجهولة في البحار

نبدأ بالتماس التحوّل الذي حصل في شخصيته، خصوصاً حين ينجرف إلى المتع المتاحة في دبي، وعلاقاته المتعدّدة مع العابرات، رغم وجود شخصية نسائية ثابتة نوعاً ما في حياته مثل ياسمينا التي كانت نائمة في غرفة النوم.
الاستغراق بالمتعة لا يقود إلى الهناء رغم راحة البال المؤقتة، إذ أن الموت الذي خطف أشرف، والجد «سهيل زوربا»، يثقل تمّوز بضغط أخلاقي يدفعه للعودة نحو الوطن. سيعود أخيراً إلى سوريا لرؤية عمته، ويصبح مصوّراً في الغوطة الشرقية، وبعدها إلى تركيا، منها إلى اليونان في قارب صغير مع المهجرين واللاجئين السوريين «كنا حوالى مئتي شخص في قارب صغير يتّسع لخمسين في الحدود القصوى. معظم الموجودين لم يرتدوا سترات النجاة». بين الخيال السينمائي، والواقع القاتم، تكتب حسن، سيرة اللجوء السوري، والهرب من الحرب إلى مصائر مجهولة في البحار. بعد نجاته من الغرق، يوضع تموز في مبنى مخصص للاجئين، لكنه يخرج بحالة «كنت أحس بأني سكران، كما اعتقدوني، بشعر طويل مشعث وهيئة رثة، رغم أني لم أشرب شيئاً ولم آكل منذ أن وصلت إلى الجحيم هنا. أشعر بجسدي خفيفاً وروحي تكاد لا تحمله جليه واضحة، ولأول مرة أشعر بأطرافها التي ترتطم بجدران جسدي من الداخل».
يقوم حوار تموز الداخلي الذاتي على حواراته مع أبطال الأفلام التي يستحضرها في كلّ لحظة مفصلية في حياته. حوار يتمتّع بدينامية البحث عن المعادل السينمائي في الحياة، مؤكّداً انحياز الشخصية للسينما. وعبرها، تمجّد روزا ياسين حسن السينما كمفتاح حياة لصنّاعها، صنّاع البهجة في العالم الذين يستغرقون في عوالمهم السينمائية بعيداً عن تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها البشر العاديون. تحمل رواية «بين حبال الماء» القرّاء إلى عوالم جديدة وممتعة نشاهدها في السينما، فيما تلامس واقع البشر وشروطهم في كثير من الحالات واللحظات.