(مقتطفات من أدبيات العبودية للمصارف والتحرر برفض أداء الدَّيْنِ العام)
ثمة ما هو أقبح من اقتحامِ مَصْرَفٍ: تأسيس مَصْرَفٍ (برتولت برشت: أوبرا القروش الثلاثة)
لا يمكننا، في القسم الثقافي لـ «الأخبار»، إلا أن نكون متورطين في السياسة والاقتصاد. فالمواثيق الدولية تتحدث عن الحقوق السياسية، الاقتصادية والثقافية. لكل بيرق لون وشعارٌ يُصاغ وفق رؤية ثلاثية الأبعاد. لا احتجاجَ بدون ثقافةِ احتجاج. لسنا أبداً معزولين عن حركية المجتمع، ولا غير آبهين بآمال وآلام الناس. نحاول دوماً، على مدار ثلاثة أسابيع متوالية، مسايرة إيقاع وصرخات المستضعفين في التوق لنظام سياسي ينشد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في لبنان مستقِلّ. لذلك، تماشياً مع بعض طروحات الصف الوطني الديمقراطي ضمن الحراك، نضع بين أيدي قراء الملحق ملفاً يشمل تأريخاً لسعي الأفراد والجماعات والكيانات الوطنية الإفكاك من أسر الطغمة المالية العالمية المتمثلة حالياً في تحالف المصارف وتجار السلاح والنفط والغاز، الوجه الأبشع للكولونيالية الجديدة. «السياسة في عمل أدبي مثل طلقة مسدس وسط حفلة غنائية» (ستندال). لِنُفْسِدْ على المصرفيين والصيارفة حفلتهم.



1. مصير امرأة: من دَيْنٍ إلى المشنقة
مع دائن حَقود، يمكن للدَّيْن أن يتحول إلى جريمة. ففي مدينة تْشِلْسِي، حوالى 1660، تمت ملاحقة السيدة مارغريت شاربْلِس أمام القضاء لسرقتها قطعة قماش من متجر ريتشارد بِنِتْ، صَنَعَتْ منها تنورة لِمَلْبَسِهَا الشخصي. ساومت عامِل المتجر، وفق أقوالها في المحكمة، على القماش، وبما أنها لم تكن تتوفر على ما يكفي من المال في صُرَّتِها للأداء، أخذَتْهُ بنية أداء ثمنه في أقرب الآجال. واتفقَتْ، فيما بعدُ، على سِعْرٍ محدَّدٍ مع السيد بِنِتْ. وهو ما أكده هذا الأخير: بعدما قَبِلَتْ أداءَ 22 شِلْناً، سلمته مارغريت قفةَ مؤونة كَرَهْنٍ لضمان أداء المبلغ، وفوقَها أربعُ شلنات وتِسْعُ بِنْسَاتٍ. لكن، فيما بعد، وإثْرَ طول تأمل، لم يَرُقْهُ الاتفاق فقرر الإخلال به ورَدَّ للمارغريت القفة بمؤونتها، ثم قدم شكوى بها إلى القضاء. انتهت المحاكمة والمداولات بتنفيذ حكم الموت شنقاً على مارغريت.

2. حكاية رمزية ساخرة حول الدَّيْن العام
في 1711، أشار الكاتب الساخر جوزف أَدِيسُنْ، في نص وجيز هزلي، إلى ترابط بنك إنكلترا — أي النظام النقدي البريطاني — وثقة العامة في الاستقرار السياسي للعرش. (فَرَمَانُ التنصيب لعام 1701 هنا يُنَظِّمُ قواعد وراثة العرش، أما قطعة الإسفنج فَتَرْمُزُ شعبياً لعدم القدرة على سَداد الدين). يحكي أَدِيسُنْ رؤياهُ كما يلي: رأيتُ الدينَ العام فوقَ العرش، في قاعة العَطَّارينَ، والشَّرْعَةُ الكبرى فوقَ رأسي ونظري شاخِصٌ في فرمان التنصيب. بلمسة من يدي، كان كل شيء يتحول إلى ذهب. وخلفَ العرش، أكياس من النقود ترتقي أكداساً حتى السقف. على يميني ويساري، اختفت الأرضيةُ تحت أهرامات من الجنيهات. فجأةً، انفتح الباب، دخل المُطالِب بالعرش مسرعاً، في يده قطعة إسفنج، وفي الأخرى سيفٌ يَمْتَشِقُهُ قبالةَ فرمان التنصيب. أما الدَّيْنُ، في هيئة ملكة فاتنة بجمالها، فقد أغميَ عليه وسقط أرضاً. أما السحر الذي كانت تُحَوِّلُ به كلَّ ما يحيط بها إلى كنز، فقد بَطُلَ. وبالنسبة لأكياس النقود، فقد زال انتفاخها كمثانات بَقَرَتْهَا ضربات الإبَر. أما أكداس القِطع الذهبية، فقد تحولت إلى حُزَمِ خِرَقٍ وأربطةِ تقطيعاتِ خشبٍ.



3. خُدْعَةُ الودائع المصرفية
«يصنع النظام المصرفي الحديث النقود من لا شيء. لربما كانت هذه العملية الخدعةَ الأكثر إذهالاً بين الخُدَع التي تم ابتكارها. لقد وُلِدت المصارف في ظل الطغيان ونشأت في الخطيئة. أصحاب المصارف ملاكو أراضٍ؛ فحتى لو أردتم انتزاعها منهم فلتُتْرَكْ لهم فقط سلطة خلق القُروض، بجرة قلم سيخلقون كثيراً من المال لشرائها من جديد. إن أردتم أن تبقوا عبيداً لأصحاب المصارف مع دفع كلفة عبوديتكم، فاتركوهم يواصلون خلق سَنَدات الودائع» (من خطاب اللورد يوشع تشارلز ستامب، مدير بنك إنكلترا، في جامعة تكساس، 1927.)


4. سيمون بوليفار في متاهة الدَّيْن العام
مع بداية الصراع من أجل الاستقلال، بدأ سيمون بوليفار، رفقة قادة استقلاليين آخرين، سياسة دَيْنٍ داخلي ـــ كان في نهاية المطاف في صالح الطبقات المهيمنة المحلية ـــــ ودَيْن خارجي من بريطانيا ومصارفها. ولكي يستدين من الخارج، رهن جزءاً من ثروات الدولة واضطر لتوقيع اتفاقيات تبادل حر مع بريطانيا. لم يظل لأميركا اللاتينية شيء من الجزء الساحق من المبالغ المقترَضة، لأن مصرفيي لندن كانوا يقتطعون عمولات ضخمة مع نِسب فوائد مُشْتَطَّة ويبيعون السندات بسعر أقل بكثير من أصولها. بل إن بعض المبعوثين الخاصين الأميركولاتينيين المأذونين بالصرف من طرف الزعماء الاستقلاليين اقتطعوا بدورهم عمولاتٍ باهظة من المَصْدَر، هذا إذا لم يكونوا بكل بساطة قد سرقوا جزءاً من المبالغ المقترَضة. في ما تبقى، كان جزء مهم من تلك المبالغ المقترَضة مخصصاً بشكل مباشر لشراء أسلحة ومعدات عسكرية بأسعار فاحشة وحصرياً للتجار البريطانيين. أما النزر القليل الذي وصل إلى أميركا اللاتينية، فقد سرق معظمَه قادة عسكريون وأعضاء من السلطات الجديدة والطبقة المهيمنة محلياً. شيئاً فشيئاً، وعى اللِّيبِرْتَادُورْ بشَرَك الدَّيْن الذي أُسْقِطَ فيه مع الدول التي استقلت حديثاً.

5. سيمون بوليفار: سَيَسْتَعْبِدُنَا الدَّيْن العام (رسالة)
14 يونيو 1832.
إلى السيد نائب الرئيس فرانشسكو باولا،
وأخيراً، سنفعل كل شيء، لكن الدَّيْنَ العام سيستعبدنا.
يَنْتُجُ عن الدَّيْن العام هباء من الشرور، الكوارث والجرائم، فالسيد سِيَا (نائب رئيس كولومبيا) مارِدُ الشر ومينديث (مبعوث قادة الاستقلال إلى لندن) مارِدُ الخطأ، وكولومبيا ضحية تَبْقُرُ هذه الكواسر الضارية أحشاءها: لقد التهموا مسبقاً عرق الشعب الكولومبي؛ لقد حطموا تفوقنا الأخلاقي، ولم نحصل في المقابل إلا على دعم هزيل. كيفما كان القرار الذي سنتخذه بخصوص هذا الدَّيْن، ستكون العاقبة وخيمة: إذا نحن اعترفنا به، سنَكُفُّ عن الوجود، وإذا لم نُؤَديه ستكون هذه الأمة عرضة للعار.




6. انتصار المكسيك على الدَّائِنين في بداية أربعينات القرن الـ 20
عندما وصل كَارْدِنَاسْ إلى الحكم، رفض معاودة أداء الدَّيْن العام، بل رفض حتى معاودة المفاوضات مع اللجنة الدولية للمصرفيين، مما اعتُبِرَ، ساعتها، نصراً وطنياً للمكسيكيين على الناهب الدولي.

بداية من 1941، ولتحسين العلاقات مع المكسيك، أرغم الرئيس روزفلت مصارف أميركا على الخضوع لرغبات الحكومة المكسيكية. كانت واشنطن تقرع طبول الانخراط في الحرب العالمية الثانية في كانون الأول (ديسمبر) 1941، وكانت بحاجة لجارتها المكسيك، أسوة بالبرازيل التي أوقفت بدورها دفعَ دَيْنِها العام، لتصيرَ حليفاً قوياً.
وكان الاتفاق الذي وضع حداً للنزاع بين اللجنة الدولية للمصرفيين والمكسيك بمثابة استسلام من المصارف لقرارات الحكومات السيادية.
بينما كانت اللجنة الدولية للمصرفيين تطالب بأداء دَيْنٍ يصل إلى 510 ملايين دولار (مجموع القرض والفوائد المترتبة عنه)، بَرْمَجَ الاتفاق النهائي أداء أقل من 50 مليون دولار: ما يصل إلى خفض أكثر من 90 بالمئة. أما النسبة المحددة للتعويض على الفوائد المتأخرة، فكان لافتاً للنظر: 1 في الألف لمتأخرات 1923، 1 في المئة لفترة 1923-1943.
7. تروتسكي: سادتي الغُرَماء، لقد تم تنبيهكم في الوقت الملائم!
في سيرته الذاتية، يحكي تروتسكي، الذي كان قائداً لمجلس سوفييت سان بُطْرُسْبُرغْ، أن ما تسبّب في اعتقال كل قياديي السوڤييت في المدينة، يوم 3 كانون الأول (ديسمبر) 1905، هو توزيع بيان يدعو فيه المجلس لرفض أداء الديون التي تسبب فيها نظام القيصر. يحكي أيضاً كيف أن نداء 1905 هذا لرفض سداد الدَّيْن كان لَبِنَةَ قرار حكومة السوفييتات، في بداية 1918، الإعلان رسمياً عن رفض سداد الديون القيصرية: «كان «بياننا المالي» يعلن الإفلاس الحتمي للنظام القيصري، وأعلنَّا بصراحة وقطعياً أننا لن نسدد ديون آل رومانوف، يوم سيحوز الشعبُ النصرَ. أشهُراً بعد ذلك، ردت بورصة باريس على بياننا بأن منحت القيصرَ قرضاً جديداً بقيمة 750 مليون فرنكا. أما الصحافة الرجعية والليبرالية، فكانت منتشية بضعف السوفييتات تجاه مالية القيصر والمصرفيين الأوربيين. فيما بعد، حاولوا طمسَ بياننا في غياهب النسيان. لكنه سيدخل التاريخَ من بابه الواسع. أُعْلِنَ الإفلاس المالي للنظام القيصري، الذي يجد جذوره في كل المسلكيات الاقتصادية الماضية، بتوازٍ مع انهيار الجيش وتقهقره على الجبهات. وبعد انتصار الثورة، أعلن مجلس مندوبي الشعب، في 10 شباط (فبراير) 1918، بقرار رسمي لا لبس فيه إلغاء سداد ديون القيصر. وما زال هذا القرار سارياً. خاطئون من ظنوا أن ثورة أكتوبر لا تعترف بأي من تعهداتها. الثورة ابنةُ تعهداتها. العهد الذي قطعته على نفسها في 2 ديسمبر 1905، بقيت متمسكة به ونفذته في 10 شباط 1918. كان لها الحق المطلق في أن تقولَ لِغُرَمَاء النظام القيصري: «سادتي، لقد تم تنبيهكم في الوقت الملائم!».
8. توماس سانكارا: خطاب المديونية
(مؤتمر قمة منظمة الوحدة الأفريقية بفي آديس أبابا، 29 تموز/ يوليو 1987)
(ملحوظة: بعد 3 أشهر على هذا الخطاب، اغتيل سانكارا، مع 11 من رفاقه، في عملية انقلابية مدعومة من فرنسا، وبتواطؤ من أنظمة عميلة في الجوار الأفريقي. بذلك يكون قد أدى هذا الزعيم العالمثالثي ضريبة خطابه في محاولة النهوض بشعوب الجنوب ضد نيوكولونيالية الطغمة المالية العالمية).

كل رسومات الكاريكاتور للإيطالي غابرييل غالانتارا (1865-1937)


في تقديرنا أن الدَّيْنَ ينبغي أن يخضع للتحليل مِنْ منطلقاته. تعود منطلقات الدَّيْنِ لمنطلقات الكولونيالية. أولئك الذين أقرضونا مالاً، هم أولئك الذين استعمرونا، هم ذاتُهُمْ كانوا يُسَيِّرُونَ بلداننا واقتصادياتِنا، هم المستعمِرون الذين كانوا يُدَيِّنون أفريقيا بواسطة مانحي قروضٍ، هم إخوتهم وبنو عمومتهم.
كنا بعيدين وغريبين عن هذا الدَّيْنِ، لم يكن بوسعنا إذن سداده.
الدَّيْنُ، إنه أيضاً كولونيالية جديدة حيث تحول المستعمِرون إلى مساعِدين تقنيين؛ علينا في الحقيقة أن نقولَ أنهم تحولوا إلى قَتَلَة تقنيين؛ فَهُمْ من اقترحوا علينا مصادرَ للتمويل.
مانحو قروض، مصطلح يُسْتَعْمَلُ يومياً كما لو أن ثمة أناساً يكفي تثاؤبهم لخلق التنمية لدى الآخرين! مانحو قروض أُوْلَاءِ، تمت الإشارة علينا بهم مع التوصية. قُدِّمَتْ لنا توليفات مالية مغرية، ملفات؛ اسْتَدَنَّا لمدة 50 سنةً، 60 سنة، بل أكثر، أي أنه تم دفعنا لتوريط شعوبنا لمدة 50 سنة وأكثر.
لكن الدَّيْنَ، في شكله الحالي، مراقَب ومسيطَر عليه من طرف الإمبريالية، يعتبَر إعادة غزو منظَّمة بمهارة لكي تخضع أفريقيا، بنموها ونمائها، لمَسارات ومعايير غريبة عنا كلياً، مما يجعل من كل واحد منا عبداً مالياً، أي عبداً بكل بساطة للذين انتهزوا فرصةَ، مكيدةَ، احتيالَ وضع قروض لدينا مع إكراهنا على سدادها.
يُطْلَبُ منا سداد الديون، هذا ليس أمراً أخلاقياً، لم يعد الأمر مرتبطاً بشرف مزعوم يقتضي منا السدادَ أو عدمَه؛ سيدي الرئيس (رئيس زامبيا آنذاك: كينيث كاوَنْدا، رئيس مؤتمر القمة)، لقد أصغينا لرئيسة وزراء النرويج وصفقنا لها عندما تدخلت هنا بالذات، فقد قالت، وهي الأوروبية، إنه لا يمكن سداد مجموع الديون بالكامل. لا يمكن سداد مجموع الديون بالكامل لأننا، قبل كل شيء، إذا لم نَدْفَعْ فلن يموتَ مانحو القروض. لنكن متيقنين من ذلك. وبالعكس، إذا سددناها، فنحن من سيموت. لنكن متيقنين من ذلك أيضاً. أولئك الذين قادونا نحو الاستدانة قامَروا كما لو كانوا في الكازينو؛ عندما كانوا يربحون، لم يكن ثمة نقاش، وبما أنهم خسروا الآن في المقامَرة، يلحّون علينا في السداد؛ وثمة حديث عن أزمة. أبداً! سيدي الرئيس: لقد قامروا، لقد خسروا، هو ذا قانون اللعبة، لِتَتَواصَلَ الحياة!

المصادر:
* النصوص 1، 2 و3 مأخوذة من الترجمة الفرنسية لكتاب دِيْفد غْرَيبِرْ: الدَّيْنُ، 5000 سنة من التاريخ.
David Graeber, Dette: 5 000 ans d’histoire, traduit de l’anglais par Françoise et Paul Chemla, Éditions les liens qui libèrent, Paris, 2013.
* النصوص 4، 5، 6 و7 مأخوذة من كتاب إِرِيكْ تُوسانْ: منظومة الدَّيْن، تاريخ الديون السيادية ورفضِ سَدادِها.
Éric Toussaint, Le système dette, Histoire des dettes souveraines et de leur répudiation, Éditions les liens qui libèrent, Paris, 2017.
* النص 8 مأخوذ من خطاب توماس سانكارا بصدد المديونية، بتقديم جون زِيغْلِرْ.
Jean Ziegler et Thomas Sankara, Discours sur la dette, Elytis, Paris, 2014.