«لقد أبحرتُ من لغةٍ، ومن دون إرادتي رسوتُ على شاطئ لغةٍ أخرى». بهذه العبارة يلخّص أدريان ن. برافي (1963) في كتابه «غيرةُ اللغات» الصادر عام 2017 (دار فواصل ـــ ترجمة أمارجي) معنى الهجرة اللغوية والهجنة الثقافية، والنزوح القسري أو الاختياري بعيداً عن اللغة الأم. الكاتب الأرجنتيني المهاجر إلى إيطاليا وجد نفسه عالقاً بين لغتين. يفكّر بالأولى، ويكتب بالثانية، من دون أن تفارقه ذكريات طفولته التي تباغته بعناد مثل «موكبٍ غامض». كانت آخر ذكرياته في سان فرناندو، تتعلق بمنزل قديم متاخم للنهر الذي كان يفيض أحياناً فيغمر المنزل، وكانت أمه تضعه فوق طاولة أثناء انهماكها في صدّ المياه: «إذا كان عليّ اليوم، أن أقول ما هو وطني الحقيقي، فإنني أودُّ أن أقول إنّه تلك الطاولة هناك». ليس بمقدور لغةٍ جديدة إذاً، أن تحرّر المرء من موروث ماضيه، لكنه سينظر إليه بعدسة أخرى، فالمشاعر تتغيّر وفقاً للكلمات التي نستخدمها «لا يمكننا أن نروي القصة نفسها بلغتين مختلفتين» يقول. هذا الصراع بين أمومة اللغة، وحيرة الابن ستقودنا إلى طبقات المعنى، من دون أن نتخلى عن الحليب الأول.

ذلك أن اللغة الأولى لا تموت أبداً، إنما تقبع صامتة لكنها حيّة في الأعماق. سنكتشف تدريجاً عشرات الكتّاب ممن هجروا لغاتهم الأم لأسباب متعدّدة، لكن هذه اللغة ظلّت مثل لطخة أبدية في متن نصوصهم بوصفها سيفاً وقد تحوّل في المنفى إلى درع أو ملجأ خفي، أو غلاف يؤطر الكتابة اللاحقة، على غرار ما فعله صموئيل بيكت، وجوزيف كونراد، وإميل سيوران، وآخرون. وإذا بهم يضفون نكهة أسلوبية مفارقة على اللغات التي انتسبوا إليها، لجهة الصوت والإيقاع والنبرة، برافعة بلاغية آتية من الهجنة الثقافية أكثر منها بلاغة مقصودة. ففي المحصلة «كل امرئٍ سجين لغته»، تلك التي تعرينا أمام الآخر، وتزيح النقاب عن الأصل، مهما سعى صاحبها إلى الإنكار أو المراوغة.
في «شعرية الفوضى»، يرصد أدريان برافي تأثير المنفى والهجرة على أحوال اللغة في نفورها وعناقها «كونشرتو اللغات الأخرى» لصعوبة عزل اللغة الأصلية عن ملوّثات لغة المنفى، إذ لا يمكننا أن نفكّر في لغة من دون أن نأخذ في الاعتبار صلاتها والعلاقة التي تقيمها مع اللغات الأخرى، ما يخلق جمالية مبتكرة عن طريق الإزاحة والانفتاح على مفردات جديدة تنطوي على شعرية الفوضى أو تشوّش نظام اللغات، وما يخرّبها ويثريها في آنٍ واحد، كمحصّلة لموجات الهجرة والغزوات والتناقضات والتواطؤات والانحناءات إلى أن تصير شيئاً آخر غير نفسها. هنا نقع على طبقات من المنافي التي تتجاوز اللغة إلى الجغرافيا، فالكائن البشري منذور للهجرة «حتى الموتى يهاجرون، ذلك أن الدفن أحياناً، لا يضع نهاية للمغامرة». هناك أيضاً منفى خفيّ «مصوغ من الإحساس بالعزلة والتهميش»، بالإضافة إلى حالات النزوح واللجوء، والهجرة التي تنتهي غالباً إلى «إقصاء مزدوج» عن الوطن الأصلي أولاً، وعدم الاندماج في أوطان المنافي ثانياً. يروى عن المغنّي الأرجنتيني فاكوندو كابرال الذي عاش حالة من الترحال المتواصل هرباً من ديكتاتورية بلاده إلى لحظة سقوط النظام، بأنه أجاب أحدهم عن سبب رحيله مقتبساً مقولة ديوجينوس «لم أكن أنا من رحل، إنه أنتم من بقيتم». ولكن ما خسائر وعلل وإضافات الكتابة بلغةٍ أخرى؟ يجيب: «عندما يدخل المرء لغةً أخرى، فإن هذه اللغة لا تحلّ أبداً محل اللغة الأم، بل إن اللغة الأم هي التي تصوغ صوتها داخل اللغة الأخرى، مغيّرة بناء الجمل، ومشوِّشةً علم الصوتيات، أو مبلبلةً المخيّلة بقصص جديدة آتية من بعيد».
كتاب في سيرة اللغة بوصفها فناً لتأويل العالم

في المقابل، يوضح بأنه لم يعد ممكناً اليوم تصوّر الأدب داخل حدوده الوطنية، بعدما فرض «أدب الهجرة» حضوره، في تحرّكه على الحد الفاصل بين لغتين وثقافتين وتاريخين ومخيّلتين وموروثين. أدب يتّسم بتهجين عميق ينعكس على الأشكال الأدبية والأصوات السردية، عبر التداخل اللغوي الذي أطاح عذرية هذه اللغة أو تلك، فكل لغة تعيش مغمورة بجوقة من اللغات الأخرى نتيجة التلاقح والاحتكاك وتأثير أصوات اللغة الدارجة. هذه الانحرافات هي نتيجة لإرغام الكلمات وقواعد تركيب العبارات على قبول معانٍ أخرى، كأنها اكتشافات جديدة، على غرار نصوص صموئيل بيكيت مثلاً، الكتابة المرتحلة بين لغتين، ذهاباً وإياباً. وتالياً فإن نصوصه ليست تكراراً للأصل، بل هي افتراق عنه، نظراً لروحها الابتكارية وقدرتها على لفظ التناسخ خارجاً لمصلحة الثراء الإيقاعي. يخلص هذا الكاتب مزدوج الهوية إلى أن هوية أي بلد هي هوية لغوية قبل أن تكون هوية سياسية، إذ لطالما كان الأدب ينتج الأمة وليس العكس. من ضفة أخرى، نقع على طراز آخر من اللغات هو «لغة الموت»، حين تتحوّل اللغة إلى تهمة، أو مصدر تهديد، فيجد المرء المنفي نفسه مجبراً على إنكار لغته الأم ومواراتها. يتساءل جاك دريدا عن مفهوم المواطنة وطبيعة السلطة، من خلال اللغة لا السياسة، ويقول «أنا لا أملك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي»، فيما تقول حنة آرندت: «لا أحب استخدام لغتي الأصلية. جروحي لم تلتئم بعد، وكلما فكّرت في ألمانيا، شعرت كما لو أنها تُفرَك بالملح». من جهته يقول الشاعر بول سيلان: «فقط في اللغة الأم يمكن أن تُقال الحقيقة. في لغة أجنبية الشاعر يكذب». هذا كتاب في سيرة اللغة بوصفها فناً لتأويل العالم، وتالياً، إنما نحن نتكلم لغتنا الأم بلغات أخرى كثيرة.