ترجمة أشرف القرقنيخلال الأسابيع الأولى للحرب العالميّة الثّانية، خريفَ سنة 1939، أُرسِل صبيّ ذو سنوات ستّ، مثل آلاف الأطفال الآخرين، من قِبل والديه، من مدينة كبيرة في أوروبا الشّرقيّة إلى قرية بعيدة لتكون ملاذاً له.
وافق رجل مسافرٌ باتّجاه الشّرق مقابل مبلغ كبير على أن يعثر على أبوين مؤقّتين ليتبنّيا الطّفل. وإذ لم يكن هناك خيار آخر، ائتمنه الوالدان على الفتى.
لقد اعتقدا أنّ إرسال ابنهما بعيداً، هو الطريقة الأفضل لضمان بقائه حيّاً أثناء الحرب. وبسبب أنشطة الأب المناهضة للنازيّة قبل اندلاعها، كان عليهما هما أيضاً أن يبحثا عن مخبأ لتجنّب الأشغال الشّاقّة في ألمانيا أو السجن في معسكرات الاعتقال. أرادا إنقاذ الطفل من هذه المخاطر، آمليْن اجتماعهم مجدداً في النهاية.
ناتاليا زدانوفا: «سَلَمَنْدَرٌ ناري» (زيت على قماش، 2017)

ولكن خيّبت الأحداثُ آمالهُما. ففي فوضى الحرب والاحتلال التي قضت بعمليّات النّقل المستمرّة للمتساكنين، فقد الوالدان الاتّصال بالرّجل الذي اصطحب طفلهما إلى القرية. وكان عليهما إذن أن يواجها إمكانيّة عدم العثور عليه مجدداً.
وأثناء ذلك الوقت، توفّيت أمّ الفتى بالتبنّي خلال الشّهرين التاليين لوصوله. ليُترك الطّفلُ وحيداً، تائهاً من قرية إلى أخرى، محتمياً بمأوى أحياناً، ومطروداً ومُلاحَقاً أحياناً أخرى.
تختلفُ القرى التي اضطرّ لقضاء السّنوات الأربع اللاّحقة فيها عرقيّاً عن مسقط رأسه. كان الفلاّحون المحلّيون عشائر معزولة، شُقراً، ذوي بشرة فاتحة وعيون زرقاء أو رماديّة. أمّا الفتى، فقد كانت بشرته بلون الزّيتون، شعره داكن اللّون وعيناه سوداوان. وقد كان يتكلّم لغة الطبقة المتعلّمة، لغة تكاد لا تكون مفهومة من قبل فلَاحي الشّرق.
كان هؤلاء يعتبرونه غجريّاً أو يهوديّاً ضالاً، في حين يعرّضُ الغجر الطّالبون للمأوى أو اليهود، ومكانهم الغيتو أو معسكرات الاعتقال، الأفرادَ والجماعاتِ لأقسى العقوبات على يد الألمان.
لقد أُهملت القرى في تلك المنطقة طيلة قرون كاملة. ولكونها عصيّة على البلوغ ونائية عن أيّ مركز حضريّ، فقد كانت من بين أكثر الأقسام المتخلّفة في أوروبا الشّرقيّة. لم تكن هناك مدارس أو مستشفيات، فقط بضع طرق معبّدة أو جسور. ما من كهرباء. والنّاسُ يعيشون في مستوطنات صغيرة، على طريقة أسلافهم القدامى. يتنازع القرويّون الأنهار والغابات والبحيرات. والقانون الوحيدُ السائد فيما بينهم هو الحق التقليديّ للأقوى والأغنى على حساب الأضعف والأفقر. مقسومين بين الكاثوليكيّة الرّومانيّة والمعتقدات الأرثوذكسيّة، لا يوحّد بينهم سوى ميولهم الخرافيّة المتطرّفة والأمراض الكثيرة التي تصيب النّاس والحيوانات على حدّ سواء.
إنّهم جهلةٌ وقساة، ولكن دون خيار منهم. فقد كانت التّربة فقيرة والمناخ قاسياً، والأنهار المفرغةُ بشكل كبير من الأسماك تفيض، في كثير من الأحيان، على المراعي والحقول، محوّلة إيّاها إلى مستنقعات. اخترقت الأحراشُ والبِركُ المنطقة، في حين اعتادت الغابات الكثيفة أن تؤوي عصابات المتمرّدين والخارجين عن القانون.
لم يعمّق احتلال الألمان لتلك المنطقة من البلاد إلّا بؤسها وتخلّفها. كان على الفلّاحين أن يمنحوا جزءاً كبيراً من محاصيلهم الضّئيلة للقوّات النّظاميّة من جهة، وللموالين لها من جهة أخرى. ورفضُ القيام بذلك قد يعني اندلاع الغارات التّأديبيّة على القرى، تاركة إيّاها لأنقاضها الدّاخنة.
عشتُ في كوخ مارتا، متوقّعاً قدوم والديّ من أجلي، في أيّ يوم وأيّة ساعة. لم ينفع البكاءُ. ومارتا لم تكن تعيرُ أيّ انتباه لنشيجي.
لقد كانت مُسنّةً ومنحنية دائماً، كما لو أنّها تريدُ أن تقسِم نفسها نصفين، فلا تقدر على ذلك. شعرُها الطّويل، الذي لم يُمشّط أبداً، كان قد تشبَّك مُحدِثاً ضفائر سميكةً لا حصر لها، ويستحيلُ تسريحها. تسمّيها أقفال الأقزام. وفيها عشّشت القوّات الشيطانيّة، تفتُلها بعضها في بعض وتتقدّمُ بهَرَم مارتا.
كانت تعرجُ، مُستندة في انحنائها إلى عصا ذات عُقدٍ، متمتمةً لنفسها كلماتٍ بلغة لم أكن أفهمها بوضوح. وجهها الذّابلُ مغطّى بشبكة من التجاعيد. وبشرتها بنّيّة، في احمرار طفيف، مثل تفّاحة موغلة في الجفاف. جسدها الذّابلُ كذلك يرتعشُ باستمرار، كما لو أنّ ريحاً ما تخضّه من داخله. أصابعُ يديها، النّاتئ عظمُهما، بمفاصلهما الملتوية بسبب المرض، لم تتوقّف أبداً عن الارتجاف، بينما كان رأسها يومئُ، على عنقها الطّويل الضّامر، في كلّ اتّجاه.
كان بصرها ضعيفا. إذ تحدّقُ بصعوبة في الضّوء من خلال شقّيْن صغيرين راسخين تحت حاجبين كثيفين. أمّا جفناها، فقد كانا مثل أخاديد في تربة محروثة عميقاً. والدموع تتساقط باستمرار من زوايا عينيها، مُتدحرجة على وجهها، في قنوات بالية، لتلحق بالخيوط الدّبقة المتدلّية من أنفها وفقاعات اللّعاب المتقاطرة من شفتيها. كانت تبدو مثل فُطر نفّاث أخضر رماديّ قديم عفن، في انتظار آخر هبّة ريح لتفجّر الغبار الأسود الجّافّ من الدّاخل.
في البداية، كنتُ خائفاً منها. أغلقُ عينيّ في كلّ مرّة تقتربُ فيها منّي. كلّ ما بإمكاني أن أحسّ به في تلك الفترة هو الرّائحة الكريهة لجسدها. كانت تنام دائماً في ملابسها، التي تعتبرها الدّفاع الأمثل ضدّ خطر الأمراض الكثيرة التي يجلبها الهواء الطّلقُ إلى الغرفة.
ومن أجل الحفاظ على الصّحّة، كانت تزعمُ أنّ على المرء ألّا يغتسل أكثر من مرّتين في السّنة، في عيد الميلاد وعيد الفصح، وأن يفعل ذلك حتّى في هاتين المناسبتين بشكل طفيف ودون أن ينزع ملابسه. لم تكن تستعمل الماء السّاخن إلّا لتخفّف مسامير قدميها الكثيرة وأورامها والأظافر النّامية في تينك القدمين الخشنتين. ولهذا السّبب كانت تنقعهما فيه مرّة أو مرّتين في الأسبوع.
مرّات كثيرة، كانت تمسّح على شعري بيديها الهرمتين والمرتعشتين اللتين تشبهان مجارف الحدائق. وتشجّعني على اللّعب في الفناء ومصادقة الحيوانات المنزليّة.
اكتشفتُ في النهاية أنّها أقلّ خطورة ممّا تبدو عليه. أتذكّر حكاياتها التي اعتادت مربّيتي أن تقرأها لي من كتاب مصوّر. هذه الحيوانات، تملك حياتها الخاصّة، قصص حبّها وخلافاتها. وتخوض حوارات بلغة تخصّها.
احتشد الدّجاجُ في القنّ، متدافعاً فيما بينه لإدراك الحبّ الذي ألقيتُه له. كان بعضه يتسكّع زوجين اثنين، بينما ينقر بعضه الآخر الدّجاجات الضّعيفة، متّخذاً حمّاماً انفراديّاً في البرك التي يخلّفها المطر، أو ينفُش ريشه بتأنّق حول بيضه قبل أن يغطّ سريعاً في النّوم.
حدثت أشياء غريبة في فناء المزرعة. فقست من البيض فراخ صفراء وسوداء، بدت شبيهة ببيض صغير حيّ، ذي سيقان نحيفة. وذات مرّة، التحقت بالسّرب حمامةٌ وحيدة. وكان من الواضح أنّه غيرُ مرحّب بها. إذْ عندما حطّت وسط وابل من الأجنحة والغبار، فرّت الدّجاجاتُ مذعورة. وعندما أخذت تتحدّاهم، مطلقة هديلاً أجشّ ومتقدّمة نحوهم ببطء، وقفت الدّجاجاتُ على حدة. وحدّقت في الحمامة بازدراء. وفي كلّ مرّة كانت تقترب فيها الحمامة منها، كانت تفرّ بعيداً وهي تقرّ.
وفي أحد الأيّام، بينما كانت الحمامة كعادتها تحاول أن تختلط بالدّجاج والفراخ، انفصل شيء مّا أسود من السّحب. وسقط فيما بينها. هرب الدّجاج صارخاً باتّجاه الحظيرة والقنّ. سقطت الكرة السّوداء مثل حجر على السّرب. ووحدها الحمامة لم تكن تملك مكاناً لتختبئ فيه. قبل أن تتمكّن من فتح جناحيها حتّى، سمّرها طائرٌ قويّ بمنقار معقوف وحادّ في الأرض. ثمّ هجم عليها. كان ريشُ الحمامة ملطّخاً بالدّم. خرجت مارتا مسرعة من كوخها، ملوّحة بعصا في يدها. لكنّ الصقر كان قد أقلع بهدوء، حاملاً في منقاره جسم الحمامة المرتخي.
احتفظت مارتا بثعبان في حديقة صخريّة صغيرة، كانت قد سيّجتها بعناية. انفلت الثّعبانُ مُنحنياً من بين أوراق الأشجار، مموّجاً لسانه المشقّق مثل راية في مجلّة عسكريّة. بدا غير مبال بالعالم تماماً. ولم أعرف أبداً إن كان قد لاحظني آنذاك.
في إحدى المرّات، اختبأ الثّعبان عميقاً تحت الطّحالب، في مناطقه الخاصّة. وبقي هناك لفترة طويلة جدّاً، دون أكل أو شرب، مُشاركا ًفي مسائل غامضة وغريبة، تفضّل مارتا نفسُها ألّا تتحدّث في أمرها مطلقاً. عندما أطلّ أخيراً، كان رأسه يلمع مثل برقوق مُزيّت. استغرق الثّعبان في السّكون عن الحركة، باستثناء رعشات بطيئة جدّاً تتقدّم على امتداد جسمه الملفوف. ثمّ زحف بعد ذلك بهدوء خارج جلده، إذ بدا فجأة أرقّ وأصغر من قبل. لم يعد ليموّج لسانه مجدّدا. ولكنّه بدا منتظراً لجلده الجديد حتّى يتصلّب. لقد قام بالتخلّص كلّياً من الجلد القديم شبه الشفّاف، بينما هجم عليه الذّباب، عديمُ الاحترام. رفعت مارتا الجلد في توقير. وخبّأته في مكان سرّيّ. جلدٌ مثل هذا، كانت له خصائصُ علاجيّة قيّمة. لكنّها قالت إنّني كنت صغيراً جدّاً على أن أفهم طبيعتها.
شاهدتُ أنا ومارتا هذا التحوّل بذهول كبير. قالت لي إنّ الرّوح البشريّة تتخلّصُ من الجسد بطريقة مماثلة. ثمّ تطير بعد ذلك إلى قدمي الربّ. وبعد رحلتها الطّويلة، يلتقطها الربّ بين يديه الدّافئتين. يحييها من جديد بنفَس منه. ومن ثمّ يحوّلها إلى ملاك سماويّ أو يلقي بها سُفلا في الجحيم لتلقى عذاب النّار الأبديّ.
هناك سنجاب صغير أحمر اعتاد أن يزور الكوخ. بعد تناوله لوجبة ما، يشرع في الرّقص مرحاً وسط الفناء، ضارباً بذيله، مُطلقاً صريراً خافتاً، ملتفّاً حول نفسه، قافزا،ً ومرهباً الدّجاجات والحمام.
كان السّنجاب يزورني يوميّاً. يجلسُ على كتفي. يقبّلُ أذنيّ، رقبتي ووجنتيّ، مُثيراً شعري بلمسته الخفيفة. وبعد أن ينتهي من اللّعب، كان يختفي عائداً إلى الغابة عبر الحقل.
ذات يوم سمعتُ أصواتاً مرتفعة. فعدوتُ نحو المرتفع القريب. مكثتُ مختبئاً بين الشّجيرات مرعوباً لرؤية بعض أولاد القرية، وهم يطاردون سنجابي عبر الحقل. كان يجري بشكل محموم، محاولاً أن يدرك مأمنه في الغابة. بينما كان الصّبية يلقون الحجارة أمامه ليقطعوا عليه الطّريق. أُنهِك المخلوق الصّغير. وتقلّصت قفزاته وتباطأت. في النّهاية، أمسكه الأولاد. لكنّه استمرّ في القتال بشجاعة محاولاً أن يعضّهم. بعد ذلك، انحنى الفتية على الحيوان. وسكبوا سائلاً ما من علبة عليه. وإذ شعرتُ أنّ شيئاً فظيعاً سوف يحدث آنذاك، حاولتُ قُصارى جهدي أن أفكّر في طريقة لإنقاذ صديقي الصّغير. ولكنْ، كان الأوانُ قد فات.
جيرزي كوزنكسي: كاتب أميركي بولندي، وُلد في مدينة لودز في بولندا. تعرَّض كوزنسكي، خلال الاحتلال النازي لبولندا، إلى تجارب مريرة وقاسية، وعاش متشرداً في الرّيف البولندي، وفَقَد القدرة على النطق لمدة 6 سنوات. وقد تركت تجاربه المؤلمة خلال فترة الحرب آثارها العميقة في نفسيته وشخصيته. انعكست في كتاباته التي غلب عليها الطابع المظلم والسوداوي. وتعبِّر روايته الطائر الملون عن جزء كبير من هذه التّجارب. ألف كوزنسكي روايات عديدة من أهمها خطوات التي نالت الجائزة القومية الأميركية للكتاب سنة 1969 ورواية أن تكون هناك التي صدرت عن صفحة سبعة للنشر والتوزيع والتي تحوَّلت إلى فيلم سينمائي نال عدة جوائز. انتحر جيرزي كوزنسكي بعد مرحلة حادة من الاكتئاب سنة 1991.

(*) فصل من رواية بالعنوان نفسه، تصدر قريباً عن دار «صفحة سبعة للنّشر والتّوزيع» في الجبيل/ السعوديّة.