جودت فخر الدين: من أين يجيء الطير الأبيض؟

  • 0
  • ض
  • ض
جودت فخر الدين: من أين يجيء الطير الأبيض؟
(مروان طحطح)

«لم تدعْني السماءُ وشأني/ سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها/ جعلتْني إذا سِرْتُ أعلو/أرى عند ذلك كيف التواءُ الدروبِ/وكيف المياهُ تصيرُ سراباً/ وكيف يكون اجتماعُ الغيومِ بلا أملٍ/ ويكون تفرُّقُها فسْحةً للأملْ/ جعلتْني السماءُ أرى من بعيدٍ/ فأبصرُ ما لا يُرى من قريبٍ/وأدركُ أنّ الذي مرَّ بين الغيومِ/هو البارقُ المتردِّدُ منذ الأزلْ/ جعلتْني السماءُ أحدِّقُ في ثقةٍ/أترفّعُ عن كلِّ شيءٍ/ ولكنّها ثقةٌ كالخجلْ». لا تشبه الغيوم عند جودت فخر الدين (١٩٥٣) الغيم السوريالي في لوحات رونيه ماغريت أو غيوم الخراب في لوحة «منظر توليدو» عند الغريكو أو غيوم فان غوخ التي تفرض إيقاعاً تغييرياً أو تحويلياً على اللوحة. بل إنها أشبه بغيوم دولاكروا أو إدغار دوغاس في «دراسة الغيم». إنه النص الشعري الذي يصل إلينا مظللاً بالتأمل، ثقة الخجل المطعّمة بالأسئلة القلقة منذ مجموعته الأولى «أوهام ريفية» (١٩٨٠، دار الآداب) وانتهاء بمجموعته الأخيرة «حديقة الستين» (دار رياض الريس ـ ٢٠١٧)، وما بينهما من مساهمات نقدية نذكر منها «شكل القصيدة العربية في النقد» (١٩٨٤) و«الإيقاع والزمان» (١٩٩٥). كأن الشاعر الذي كان من طليعة شعراء الجنوب، الثلة التي انطلقت من كربلاء الجنوب اللبناني وتفرق شعراؤها مذاهب شتى في ما بعد، قد انزوى في ركن الحكمة خاصته يتأمل الحياة والشعر وتجارب الآخرين وتجربته الشخصية في لغة يستوي فيها ميزان الكلام والصمت، وتغلب أناقة التأمل والأناة فيها نزق الفانتازيا والجنون. «يا أيها الغيم/ أنت صديقي الذي أسلمتني إليه السماء/ فكن غامضاً كيفما شئت/ واحضن صداقتنا أينما كنت/ ها نحن نمضي معاً». سماء جودت فخر الدين انتقلت للإنكليزية من خلال ترجمة مجموعة «السماء التي أنكرتْني» وهي مجموعة من القصائد اختارها من دواوين الشاعر المترجمان روجر ألن وهدى فخرالدين. وقد صدرت أخيراً عن «منشورات جامعة تكساس» في مدينة أوستن الأميركية، إضافة إلى ترجمة أولى لمجموعة الشاعر «منارةٌ للغريق» (دار النهار ـ ١٩٩٦) للمترجِمَين ذاتهما وقد صدرَ باللغتيْن العربية والإنكليزية عام ٢٠١٧ عن دار «بُوا» في مدينة روتشستر في ولاية نيويورك. وقد نال في الولايات المتحدة جائزة أفضل كتاب مترجَم من العربية في عام ٢٠١٧. «عاد الطير الأبيض/ من أين يجيء الطير الأبيض/ هل كنت أرى شيئاً من بين غصون الأشجار/ هنا من موقعي العالي؟». إنها الأسئلة المحكمة للشعر الذي يطرحها فخر الدين، الأستاذ الجامعي القادم إلى الشعر من الفيزياء ولا تزيدها رصانة الهدوء والتأمل إلا صعوبة: لم يثبت تعريف واحد للشعر منذ زمن هوميروس ونشيد الأناشيد ومعلقات العرب انتهاء بزمن الحداثة وما بعدها، لكن جودت فخر الدين يعطينا إشارة مذهلة: الشعر هو أن نعرف من أين يجيء الطير الأبيض.

0 تعليق

التعليقات