يخرج سومر شحادة (1989) في روايته الثانية «الهجران» (دار التنوير) من الأجواء المباشرة للحرب السورية التي أسالت الكثير من الدماء والكلمات. يذهب إلى الظلال التي يحاول فيها الناس أن يحيوا بطبيعيّة. إنها محاولة لعيش حياة عادية في بلد غير عادي منذ عقود، ليس فقط في السنوات الأخيرة. يساعد في ذلك أن أحداث الرواية تجري في بيئة مكانية ظلت هادئة نسبياً من الناحية الأمنية، هي مدينة اللاذقية. الأمر ليس سهلاً بالنسبة إلى الشاب السوري. قبل البحث عن الحب، هناك البحث عن عمل مناسب في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للحرب، وقبل هذا أيضاً، هناك واجب تأدية الخدمة العسكرية التي تشكل سبباً للذل والموت، وكذلك الهرب منها إلى خارج البلاد.الكاتب السوري الشاب، الحاصل على «جائزة الطيب صالح» عن روايته الأولى «حقول الذرة»، يُسيّر روايته المتقنة هذه بسلاسة وهدوء، محتفظاً بمسافة تفصله عن صخب الحرب وضجيجها الذي نسمعه في باكورته. لكن بالطبع ليس بمعزل عن تأثيرات هذه الحرب المستمرة. يجمع الفقد والحزن بين بطلَي الرواية، زياد وجوري، لا اشتغالهما في المكتب الإعلاني ذاته. فصلت أيام قليلة بين موت عزيزة، أم زياد وكل ما في دنياه بعد قتل والده المعارض اليساري في المعتقل مطلع الثمانينيات، وانتحار عبد الله شقيق جوري، العسكري الذي سُرِّح من الخدمة بسبب تدهور حالته النفسية لهول ما رآه على مدى سبع سنوات وبعد ترك حبيبته له، التي ملّت انتظاره.
محاولة لعيش حياة عادية في بلد غير عادي منذ عقود


تمتد التأثيرات السلبية التي تشهدها حياة الشخوص خلال فترة شبابهم، وقد أسهمت في تشكيل وعيهم، إلى طريقة تفكيرهم ونظرتهم إلى شؤون حياتهم. تساؤلات جوري غير المُجرِّبة عن الحب الذي دمّر حياة شقيقها ومحاولاتها لفهمه، تأخذ صورة سوداوية تارة. إذ تتساءل إن كان الحب هو فقط الكدمات التي يتركها في قلوب العشاق والنظرات الفارغة التي يحفرها في عيونهم، وتخلط بينه وبين الشهوة تارة أخرى. من جهته، يحمّل عبد الله الحب مسؤولية زجّه في أتون الحرب كي ينهي خدمته العسكرية ويتابع حياته الطبيعية. كذلك، هناك محاولة زياد لفهم قصة حب والديه التي أفقدت أمه أهلها بسبب ارتباطها بشاب من طائفة أخرى، قبل أن تفقد زوجها الذي رأت أنه أحبّ معتقداته وقضيته أكثر مما أحبّها. تشكّل عودة عادل الأشقر إلى البلد محركاً فعالاً لأحداث الرواية. الفنان الذي هرب من الملاحقة مطلع الثمانينيات أيضاً، يقرر العودة للاستقرار نهائياً في المدينة، محاطاً بهالة البطل كفنان عالمي ومعارض سياسي ذي تاريخ نضالي. تنجذب إليه جوري نظراً إلى كونه يمتلك التجارب الكبيرة التي تسعى لخوضها متمردة على ظروفها العائلية الخانقة، ولظنها أنه اصطفاها من بين الجميع، فهو يشكّل النقيض من زياد الخجول والملتصق بأمه، الذي وإن أعجبت به وأحست بقربهما من بعضهما، فقد أرادت منه أن يكون جريئاً معها فيما بقي هو على تحفظه. أمام علانية علاقة عادل وجوري، ينسحب زياد من جديد إلى الأحضان الأمومية، وخاصة بعد معرفة عزيزة بحبه لجوري واستشعارها لاقتراب موتها بسبب فقدان الشيء الوحيد الذي تعيش من أجله، ولكون عادل يشكل النقيض من توفيق، أبي زياد، الذي بقي على نضاله الصامت والمثابر رغم اعتقال رفاق كثيرين له، فيما وشى عادل في الفترة عينها برفاقه وهرب إلى الخارج ليبني لنفسه تاريخاً لم يعشه... تاريخ الناجي من مجزرة بقي بعيداً عنها، حاله كحال العديد من ثوار السنوات الأخيرة المتغربين.
تتحول جوري إلى بطل وحيد للرواية، وتشعر بتميزها الذي يمنحها إياه قربها من الرسّام الشهير، قبل أن توسّع باندفاعها وشبقها الفارق الذي يفصلها عن العجوز الستيني الذي يفشل في مجاراتها في السرير، فيروح ينتقم لرجولته المهدورة بإثارة غيرتها بقصص مختلَقة، لتصير محنتها مضاعفة بفقدان شقيقها وما ظنته حباً. تصير جوري هي محنة الفنان النرجسي بعدما ظنها منقذه من الوحدة في أواخر حياته، والدمية التي سيفرغ فيها عقده، وبخاصة أنه «في ترحاله في الخارج كان يخاف أن يموت بعيداً عن أهله ومدينته، وفي انتقاله نهائياً إلى مدينته خوف من اقتراب النهاية»
يخرج الكاتب عن اللغة الواقعية للرواية في تصويره لمشهدَي موت والدَي زياد. يتداخل الواقع والحلم في موت عزيزة، وينقل لنا في تخيله لتصفية توفيق في المعتقل، استشراف هذا الثائر السلمي لما سيجري في آذار 2011، انطلاقاً من مصيره. تتميز الرواية بحساسية عالية في لغتها، وتحديداً في تفسير مفاصل مهمة فيها، منحتها جمالية إضافة إلى دورها التوضيحي. ما كان للكاتب أن ينجح في ذلك لولا عيشه في روايته وتورطه في مشاكل شخصياتها، فمرض عبد الله العاشق المخذول الملقى في المستشفى العسكري أنه «كان مشتاقاً»، فيما أخته جوري «على الرغم من بلائه، كانت في جزء بعيد منها تغبطه». يتخلى زياد عن أنانيته في ما يتعلق بوالده، فهو أمام المشاكل التي يمر بها في حياته يريد أباً عادياً يقف إلى جانبه، لا ثائراً بطلاً يسعى إلى تغيير واقع مجتمعه، قبل أن يستدرك موقفه بعد معرفة كيفية موت والده والمصير الذي لقيه الضابط الذي أمر بقتله مع رفاقه، بعد مرور عقود، «لكن، وأنا أرى الخوف والبؤس في عينَي القاتل، لو خُيِّرت بين أن أكون قاتلاً أو ضحية، لاخترت الضحية».