تأخذ رواية الكاتب السوداني حمور زيادة «الغرق» (دار العين ـ القاهرة) جانباً مظلماً من تاريخ الرق في بلدهِ، إلّا أنّه تاريخٌ متعاقب يظهر في أزمنة تلي عهد العبودية، إذ استمرت ممارساتهُ بأسماء عصرية، فيما ينفذ الأديب إلى عمق لا يتبدل في النفوس. يعيد زيادة للحكاية دوراً جوهرياً في سردهِ، بدءاً من العنوان الفرعي للنص (حكايات القهر والونس). فالرواية حكاية بسيطة عن مجموعة نساء يعانين اضطهاد الرجال والأعراف. حكاية تسير وفق أنساق محددة بالإمكان توقعها من الظلم والاستغلال. زمن الحدث عام 1969 ومكانه قرية نائية في جوار النيل. يصور الكاتب بلغة عذبة حياة أهل القرية، ويطلّ على أحداث عرفتها الخرطوم آنذاك، حيث يلمح القارئ فضاءً غنياً يحاكي الكاتب عبره الواقع السياسي في السودان، والانقلابات والمؤامرات وتبدّل الوجهاء. ينضج في مشهده الروائي نموذجان: واحدٌ تأخذه السلطة في مساربها، وآخر لأناسٍ تأخذهم الحياة إلى المهالك. وما بين هذين النموذجين، يستعين الكاتب بشخصيات عديدة ترمّم الصلات وتمسك الحبكة، مثل شخصية سكينة البدري والشيخ بشير.

بهذا يبني الكاتب شخصياته وفقاً لمستويات ثلاثة، تحضر كلّ منها بالقدر الذي يخدم فكرتهُ عن العيش والعدالة. يقارب مصير المرأة المجهولة في النيل بمصير السودان عبر خطين سرديين، أحدهما يلاحق مصائر النساء في القرية، والثاني يستعرض حال السودان، وكلاهما حال واحد يشكو الاضطهاد والقسوة، حداً تلتصق فيه صورة المرأة الغريقة بصورة بلادها. يكتسب الغرق دلالتهُ لا من الجثة التي لفظها النيل فحسب، وإنّما من واقع أشمل، قوامهُ الجهل والأمية. لكن القارئ يلمح في المقابل روحاً عامة تهدر بالخفة، تواجه المواجع بالأنس وتقهر الموت بالحكايات.
للنساء في الرواية سلالة واحدةُ، هي سلالة الامتهان. كما لو أنّ البشر في حجر نارتي، يتناسلون كي يقهر بعضهم البعض، قبل أن يسلوا عن بعضهم بالكلام الطيب. يبدأ الحدث باكتشاف جثة في النيل، بالقرب من عريش فايت ندو. وانطلاقاً من هذا العريش، يدخل الكاتب عالم القرية، نعرف وجهاءها وسطوة نسائهم، تجيء حشود من قبائل وقرى للتعرف على الجثة. تجيء فاطمة لتعاين الجثة وهو الفعل الذي استمرت بهِ طوال 28 عاماً في انتظار ظهور ابنتها. تخرج عبير ابنة فايت ندو إلى العريش حيث يثمل الرجال من حسنها، يطأها من يشاء ومتى ما استطاع أحدٌ الخلوة بها. تريدها فايت ندو أن تصير طبيبة، لكن البنت التي أنجبها سيد من عبدة، تأخذ حياتها مصير الولادة ذاتهِ. إذ إنّ إلغاء قانون الرق لم يجعل من الرقيق أحراراً، فقط تبدّلت المسميات، فالسيد صار خالاً، وبقي لبشر سلطة مطلقة على مصير بشر آخرين. تستبّد الحاجة رضية بفايت ندو وبابنتها، ينوء رجالٌ عاشروا البنت عن حمايتها، فيما تذوي فايت ندو تحت خيبة راحت تشمل حياتها كاملة. يعقب الراوي على مصير الرقيق: «نجوا من الموت ولم ينجوا من الحياة» يلخّص هذا القول المباشر سيراً وآلاماً. يعرض زيادة في روايتهِ جوانب مختلفة من المجتمع السوداني، إذ تبرز بين الانتماءات الطائفية والعصبيات العائلية شخصية أحمد شقرب الشيوعي المتواري في حجر نارتي بعد حلّ الحزب الشيوعي ومطاردة كوادره من الإسلاميين. إلا أنّ اختلاف شقرب السياسي لا يجعله مختلفاً في الحبّ. على الرغم من اعتقاده أنّه بحبهِ لعبير، فهو يخرجها من محيط جائع لجسدها، إلا أنّه من خلال هذا التفكير عينهِ، راح يئد ذلك الجسد الشهي في نقطة بعيدة من عقائدهِ، حيث تركن حرية مشروخة بالمفهوم، تقصر العقائد على ما هو سياسي، وتنحيها عمّا هو إنساني، خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة. بهذا يُقدّم زيادة تصوراً عميقاً لواحدة من أزمات الإنسان العربي.
بلاد ترتهن لثورات تنجب العسكر والإسلاميين

كما لو أنّ تحرير الجسد خطوةٌ، لا مناص منها، في الطريق نحو الحريات السياسية. في المقابل، تعي عبير مخاوف والدتها، تطلب من الرشيد بينما يدفع جسده إليها أن يكون شفيعها عند الحاجة رضية التي حرمتها الدراسة. لا يقتصر استلاب الأفراد على النساء وحسب، وإنّما تمثل حكاية محمد سعيد الناير مثالاً لسطوة التقاليد. إذ غيرت وفاة والدهِ مصيرهُ تغييراً كاملاً. بينما عمل رفاقه في أحزاب ونوادٍ سياسية في الخرطوم، عاد هو إلى حجر نارتي، كي لا تذهب المعمودية لآل البدري، فيما نسج الحاج بشير علاقة مختلفة مع آل البدري، وكثيراً ما يرمّم الحب العلاقات المعطوبة. تصنع قصة حب الحاج بشير لسكينة البدري مشهداً عاطفياً عاصفاً ومغايراً لجلّ الحبكات في الرواية. تُزوّج لضابط في الجيش، يجاهد البشير لانتزاعها من قلبهِ. وبوفاة زوجها، يعود ويطلبها للزواج أثناءَ جنازة زوجها مباركاً بنادق الطليان. إذ يتنقل الراوي بين أزمنة عديدة، ضمناً فترة الحرب العالمية الثانية، ويرصد انعكاس التحولات الكبرى في حياة الناس.
يرمي الكاتب عبر مصير عبير التي تشاركها الجميع ولم يدافع عنها أحد، إلى مصير أولئك الذين يولدون بلا أنساب في أماكن تتفاخر بها، فيما راحت تطفو في النيل جنازات صامتة لنساءٍ تحطمت أحلامهن في بلادٍ ترتهن لثورات تنجب العسكر والإسلاميين.