وفرة ترجمات أشعار يانيس ريتسوس (1909-1990) إلى لغة الضاد، أفرزت سلالة من الشعراء العرب الذين اقتفوا أثره، خصوصاً أولئك الذين انتسبوا إلى قصيدة التفاصيل اليومية، كأنهم إغريقيون أكثر منهم عرباً. كانت ترجمة سعدي يوسف المبكرة لديوان «إيماءات» قد نبّهت معظم شعراء قصيدة النثر في حقبة الثمانينيات وما تلاها إلى ثراء تجربة هذا الشاعر لجهة الكثافة والبساطة المخادعة في أسطرة المفردات اليومية، وصناعة المشهدية المدهشة بعبارة خاطفة، بمجاز، بجاذبية ما هو هامشيّ أو عابر. اليوم، يلتفت الشاعر العراقي محمد مظلوم إلى جانب خفيّ في مغامرة الشاعر اليوناني الراحل عبر ترجمة كتابَين من ميراثه المتنوّع هما: «يوميات المنفى»، و«82 ثانية/ ظلال الطيور/ وتريّات أُحاديّة» (منشورات الجمل). في الأول، يرصد أوراق مرحلة قاسية وشاقّة، عاشها الشاعر في معسكر اعتقال إثر انقلاب 1948، وهي قصاصات من علب سجائر، وأوراق أخرى، دوّن بها سرّاً، يومياته ورسائله وقصائده في هذا المنفى القسري، من دون أن يطيحه اليأس أو يستسلم للإحباط. هكذا تتخذ الأشياء المهملة، أو ما ليس شعراً، هيئة كائنات بأرواح متّقدة: المصباح، المطرقة، شرشف السرير، ورقة الشجرة، الأعشاب البحرية العمياء. وهكذا أيضاً بضربة خاطفة، بكلمات أقلّ، بمرئيات مشعّة، يغلق المشهد على صورة مباغتة: «أمشي بهدوء/ وطير على كتفي» يقول.يعتني الكتاب الثاني بالقصائد القصيرة جداً، أو ما يسميه المترجم «شعر الاحتضار»، حيث رصد دقيق لوقائع الشيخوخة والعزلة والموت، أو قصائد الوداع والفناء. إذ «يحيل كل مشهد أمامه إلى عالم متحرّك، وإن بدا ثابتاً، كتعويض عن ثقل حركة الجسد» وفق ما جاء في الكتاب. صوفية من نوع آخر، و«قحط روحي» سنجد مرآتهما بتقشّف القصيدة من جهة، وقدرتها على الإيحاء من جهةٍ ثانية. ففيما تغرق باليومي على السطح، إلا أنها مثقلة بما هو ملحمي، كما أنها «تختزن في جوهرها، إرثاً هيلينياً عميقاً وضخماً، ذلك أن تفاصيله المألوفة، مشحونة بطاقةٍ خفية من أساطير بعيدة، وهذا ما يجعلها قريبة وخلّاقة في الآن نفسه». في «وتريات أُحادية»، يكتفي ريتسوس بكتابة سطرٍ واحد فقط، منتهياً إلى تقطير قصيدته بما يشبه ضربة وتر، كأنّ الشعر بالنسبة إليه بات مفتاحاً لبابٍ سريّ تكمن خلفه إغواءات اللغة وسحرها وألغازها «مياه البئر العميقة تروي عطش التماثيل»، و«تحت الصفحة الهادئة، رياح هائلة تدفع السفن نحو الصخور»، و«لم يتبقَّ لديّ أسرار. لقد أضاؤوا المصابيح بجانب الميناء» يقول. يانيس ريتسوس بمعنى آخر: اكتشاف متجدّد.