«كميل، كميل.. استيقظ، أهلاً وسهلاً بك في السماء»لم يكن كميل قد عرف في حياته نوماً هانئاً كهذا قبل أن يوقظه صوت الرجل الغريب. رعشةٌ بسيطة سرتْ في جسده وهو يتفحّص هيئةَ صاحب الصوت. كان رجلاً حنطيّاً عاديَّ الملامح. يصعب تقدير عمره رغم قتامة شعر رأسه ولحيته الخفيفة. يلبس قميصاً طويلاً من الجينز الأزرق وبنطالاً سكريّ اللون. كل شيء في شكله يبدو طبيعياً لولا حبل القنّب المربوط حول خصره والذي يتدلى طرفاه الطويلان حتى الحذاء، ولولا الجناحان الأبيضان الكبيران النابتان من ظهره.
أعملَ كميل عقله بسرعة واستذكر جملة الرجل الترحيبية؛ بما أنه في السماء فلا شكّ أنه قد مات، ولا شكّ في أن هذا الرجل قد جاء ليستجوبه ويحقق معه قبل أن يحيلوه إلى المحكمة النهائية، فتصدر السماء حكمَها الأبدي عليه بالجنة أو النار. إنها الدينونة إذاً!!
صاح كميل مُستَبِقاً أيّ اتهام على الطريقة البشريّة:
— أنا بريء، أنا مظلوم يا سيدي. يا سيدي أنا لا أعلم شيئاً، أقسم باللـ...
قاطعه الرجلُ مبتسماً:
— على مهلك يا كميل، لم يحن أوانك بعد. اهدأ يا صديقي، ولا تنادِني بـ«سيدي». هنا، لا سادة ولا عبيد. نادِني باسمي من دون ألقاب: باسم، الملاك باسم. والآن سأشرح لكَ كلّ شي: أنتَ وصلتَ إلينا البارحة قادماً من تفجير في دمشق. يبدو أنك كنت تنتظر دورك في شراء الخبز عندما انفجرتْ سيارة مفخخة بالقرب من الفرن. كانت ساعةَ ذروة والشارع مزدحم والواقفون مثلك لتأمين قوت يومهم كُثُر، أمهاتٌ وعجائز وصِبية وأرباب أسر وضحايا عشوائيون، لم يقدّر لزملائي الملائكة إنقاذَ الجميع. وصلتَ أنت إلى السماء مع من تعذَّر تخليصهم، لكنّ إقامتك هنا لن تطول. أمامك على الأقل حياتان أو ثلاث على الأرض قبل أن تعود إلى هنا في اليوم الآخر. عليكَ الآن أن تختار شكلَ حياتك الثانية. وبما أنك كُنتَ إنساناً في حياتك الأولى، فإنك ستعود إلى الأرض حيواناً أو نباتاً. ولأنك متَّ في حادث من تدبير البشر، فإنّ بإمكانك الاستفادة من خاصيّة «الغافلين» وهي ميزة منحتها السماء أخيراً للذين يموتون بفعل فاعل قبل أوانهم. وبموجبها يحقُّ لـ«ميّتي الغفلة» أن يختاروا مكانَ حياتهم الثانية على الأرض لا شكلها فقط.
وقبل أن يهمّ كميل بطرح عشرات الأسئلة التي انبثقتْ في ذهنه، عاجلَه باسم بإتمام شرح العروض السماوية:
— يمكنك أيضاً أن تختار التخلي عن كل أشكال الحياة الأرضية وعندها ستصبح ملاكاً في السماء، مثلي يعني. أنا أصلاً من فلسطين. وصلتُ إلى هنا بعد مجزرة جنين. متُّ فيها أنا وكلّ أفراد أسرتي على مرأى ومسمع من عالمٍ جبانٍ ومتواطئ. كانت ميتةً رهيبة، آخر ما رأيتُه في الدنيا كان صورة زوجتي الحامل وهي تُذبح، وآخر ما سمعته كان أنين أبي المصاب وهو يُصارع نزفاً قاتلاً استمرّ أياماً بلا إسعاف. لم يعد لي بعدها أي ثقة بالبشر، وفقدتُ كل رغبة في الحياة على الأرض. لم أكن أريدُ العودة تحت أي ظرف، ولم تُغرِني الخياراتُ السماوية بتجريب أشكال الحياة الأخرى هناك. وقتَها لم تكن ميزة الغافلين قد تفعّلتْ بعد، وكان على الميّت الواصل إلى هنا أن يعود من حيث أتى، ولكن بهيئة أخرى. تنازلتُ عن حقّي في العودة، أي أنني لم أحصِّلْ هذا الحق لا على الأرض ولا في السماء، لكن التنازل هذه المرة كان بمشيئة مني، واخترتُ في النهاية أن أصيرَ ملاكاً.
صمتَ الرجلان قليلاً. وبدا أن كميل سيجيب بتأثيرٍ من كلام باسم وسيختار مصيره. لولا أن الملاك مدّ يده في وجه المرحوم قاطعاً عليه أفكاره:
— انتظرْ. عليك أن تعلم أن للملاك حياةً واحدة فقط، ينتهي بانتهائها، ولا فرصةَ له بعدها، لا على الأرض ولا في السماء، إلى أن يحلّ يوم الحساب.
— وهل تموت الملائكة؟
— طبعاً. وحياة الملائكة هذه الأيام لا تقلّ خطراً عن حياة الكائنات الأرضية. صحيحٌ أننا ننعم في السماء بحياةٍ مثالية، لا يعوزنا شيء ولا يؤذينا مكروه، لكنّنا ننزلُ أحياناً إلى الأرض. وهناك لا ضمان لشيء أو لأحد.
— ولماذا تنزلون؟
— لننجزَ أعمالنا. ألا تعرفُ الملاكَ الحارس؟ كلُّ وافدٍ من الأرض يختارُ البقاء في السماء يتحوّل إلى ملاكٍ حارس. نُرسَلُ في مهمات خاصة لنحرس ونحمي الناس على الأرض من الشرّ والأذى. في الماضي كانت مسؤولياتنا محدودة وواضحة، نخفق مراتٍ قليلة ونصيبُ مرات أكثر. كانت رحلاتنا سهلة: إنهاضُ مريض من وعكة، تخليصُ شخص من حادث سير، إنقاذُ جائع أو بردان أو مغامِر من موتٍ وشيكٍ محتمل.. وهكذا. لكنّ كثرة الحروب في السنوات الأخيرة جعلتْ مهماتِنا أكبرَ وأصعب؛ زادتِ المجازر والاشتباكات المسلحة، انتشرتِ الاغتيالات والعمليات الإرهابية في مناطق كثيرة، ظهرتْ مجموعاتٌ من البشر مفرطة العنف والدموية، توحّشتِ الديكتاتوريات وبالغتْ في القتل والتعذيب. وبعدما كانت ساحات عملنا تقتصر على المشافي وطرقات السفر وبعض الأماكن القليلة الأخرى، صارت الأرض كلها ميداناً لمهماتنا الإنقاذية، بدءاً بالسجون والمعتقلات وليس انتهاءً بدور العبادة ورياض الأطفال. لم يترك البشر مكاناً منزّهاً عن بطشهم وجنونهم، فضلاً عن الأسلحة التي تنوّعت وصارتْ أمضى وأشدَّ فتكاً. وإنْ كانت أجساد الملائكة محميّة وعصيّة على الإصابة، إلا أن أجنحتنا هي نقطة ضعفنا القاتلة. وإذا ما أصيب ملاك في جناحه، فقدَ القدرة على الرجوع إلى السماء، فيموت فوراً كونه لا يحتمل الحياة على الأرض.
أرعبتِ الفكرةُ الأخيرة كميلاً. لم يكن يتخيل أن للملائكة أيضاً أزماتها، وأن ما يجري في الأسفل بين البشر ستصل تأثيراته إلى الساكنين فوق بين السماوات. طلبَ وقتاً للتفكير قبل أن يختار مصيره. فاستعجله باسم:
— قرّرْ بسرعة. طوابير الواصلين اليوم طويلة، وسيكون عليهم جميعاً تحديد شكل حياتهم الثانية الليلة، حفاظاً على استمرار الحياة على الأرض وتجنباً للازدحام في السماء.
فتنتْ فكرةُ الحياة الأرضية الثانية عقلَ كميل. أغرتْهُ الفرصةُ الجديدة. وجدَ أن في الأمر عدالةً من نوعٍ ما، وتعويضاً عن ظلمٍ نالَهُ في حياته الأولى. ثم إنه لم يشبع من الحياة الدنيا، ولا عيبَ في ذلك. أهله وأصدقاؤه ما زالوا هناك، هل يفوّتُ على نفسه أن يعودَ قريباً منهم؟ وماذا عن سلمى، حبيبته التي لا يطيق فراقها؟ هل يستطيع مقاومة فكرة رؤيتها أو مجاورتها وقد تسنّى له هذا الحظ؟
حسم كميل أمره مخاطباً الملاك:
— وردة، أريدُ أن أصبح وردة. أما بالنسبة إلى حقّي في ميّزة الغافلين، فأنا أتنازل عنه وأختارُ دمشق مرّة أخرى. أعيدوني إلى الأرض بهيئة وردة، ولأكنْ في الأصيصِ المعلّق على شبّاك غرفة حبيبتي سلمى.
صاحَ الملاك باسم خاتِماً رحلة الموت:
— لكَ ذلك.
■ ■ ■

صحا كميل على حياته الجديدة. فتحَ أوراقَه وفَرَدَ بَتَلاتِه مُستكشِفاً جسده الجميل. لم يزعجه ضيقُ المساحة، بل وجدَ المكان مناسباً لحجمه وحاجاته. كان التحدي الأول لكيانه النباتي هو عدم امتلاك الصوت. جنّ جنونه عندما رأى سلمى تدخلُ غرفتها وهو عاجز عن مناداتها. كان يودّ لو أنه يجمع طاقة الدنيا في نفسه لعلّه يصيح. لم يعرف كيف له أن يلفتَ نظرها وأن يقول لها:
— أنا هنا، حبيبتي أنا كميل، أنا هنا.
وما زاد من عذابه أنها في تلك الأيام كانت حزينة ومكسورة. لا شك في أن موته هو الذي أسكنَ في قلبها كل هذا الغمّ. كانت تقضي ساعاتٍ طويلة في البكاء. تمسكُ صورتَه البشرية وتميلُ فوقَها بوجهها وتغيبُ في نوبةِ نشيجٍ حارقة. لا تخلعُ ثوباً أسودَ إلا لتتسربل في ثوبٍ أشدّ سواداً وقتامة.
كانت سلمى شاحبةً وتعيسة، وكان كميل مُلْجَماً بجسده الضعيف وعاجزاً عن مساندتها والتخفيف عنها. إلى أن تحرّكتْ غريزته واهتدى إلى بديل الصوت فيه: العطر! كيف لم يفطن حتى الآن إلى أن صوتَ الوردة هو عطرُها.
أعملَ كميل غددَهُ العطرية، وراح ينفثُ ما استطاع من أطايب الرحيق والشذا في محاولةٍ لجذب انتباه حبيبته. هبّتْ نسمةٌ وحملت العطر إلى أنف سلمى، فاقتربتْ من النافذة وأحنتْ رأسها صوبَ أصيص الورد في شمّةٍ طويلة. طارَ عقلُ كميل وسرقَ من خدّها قبلةً شفافة. رفعتْ سلمى وجهها وابتسمتْ لِمُزاحِ الوردة. سُرَّ كميل لاكتشافه طريقةً ينادي بها حبيبته ويجلبُ لها الابتسامة.
مضتِ الأيام، وكميل راضٍ عن حياته الجديدة؛ يسكنُ عند حبيبته، يتفرّجُ عليها، يصاحِبُ معظم ساعاتها، يراقب محاولاتها في استئناف حياتها الطبيعية بعد حادثة فقدانه، يشجِّعُها، يلطّف مزاجها بأريجه، يناديها بعطره، ويستدرجها كلما اشتاق إلى قبلة من فمها أو إلى مداعبةٍ من أصابعها.
أما أجمل الليالي فكانت تلك التي تكون فيها سلمى رائقة البال، تسهر في غرفتها لتشاهدَ فيلماً أو تقرأ كتاباً أو تستمع إلى الموسيقى، فيشاركها كميل في هواياتها ومتعتها. وما إن تغلق الستارة الرقيقة استعداداً لتغيير ملابسها قبل النوم حتى يفور الماءُ في عروق كميل، يراقبُ الظلَّ الرمادي النحيف والذي يبدو، لشحِّ الضوء، أكثر فتنةً ونحولاً؛ اليدان الرفيعتان كقوسَي كمان، المساحةُ السريّة الناعمة من تحت الإبط حتى الخاصرة، والساقان الحلوتان كقصبَتي سكر. يتكفّل خيالُ العاشق وحبّه بإتمام الأجزاء الناقصة من الصورة، ثم ينام وهو يحلم بحبيبته. وبعد كل ليلة من تلك، كان كميل يصحو وقد رطّبتْ أوراقَه قطراتُ الندى.
إلى أن كان ذلك اليوم بعد سنتَين؛ صخبٌ وحركةٌ غريبة في البيت كلّه، وجوهٌ جديدة وكثيرة تدخلُ وتخرجُ من غرفة سلمى بانشغالٍ واضح. أُغلِقَتِ النافذةُ في وجه كميل لساعاتٍ مُقلِقَة ثم فتحتْها في المساء أمّ سلمى مُطلقةً زغرودة طويلة. رأى كميل سلمى في ثوب العرس الأبيض بهيّةً وضاحكة. تمالكَ نفسه عن الذبول الفجائي وأخذ يعزّي روحه: ما الذي كان يتوقعه؟ هل كان يظنُّ أنها ستعيش كل حياتها عازبة تقتاتُ وجعَ ذكراه؟ أم كان يتأمل أن تتزوج سلمى بوردة؟! ما يحدث أكثر من عادي وطبيعي، وعليه أن يستسلم للوضع الجديد.
غادرتْ سلمى إذاً بيتَها وغرفتَها وبدأتِ الأشواكُ تنبتُ على ساق كميل. كانت الأشواك طريقته في التعبير عن ألمه وحزنه. كلُّ غصَّة بشوكة. وكل ليلةٍ موحشة أو ذكرى موجعة تتركُ ندبتها على جسد كميل في شكل هذه الزوائد المدببة والجارحة. لقد بلغَ نضجه النباتي الآن، وصارَ وردةً كاملة لها أوراقها وعبيرها ونداها وأشواكها. لكن الحياة لم تطل به، و كان عمره هذه المرة أيضاً قصيراً.
عطشتْ دمشق. انقطعت المياهُ عن كلِّ منازلها. معاركُ هوجاء بين المتصارعين على المدينة في منطقة وادي بردى. اتهاماتٌ متبادلة بتلويث الماء وقصف مضخات نبع عين الفيجة الذي يغذّي جلّ مناطق المحافظة. حربٌ لا تعرفُ الرحمة ولا تعترفُ بحقوق بشر. ذبلت المزروعاتُ والبساتين. اتسختِ الدُّور والشوارعُ والأجساد. اكتظّتِ المشافي بحالاتِ جفافٍ وتسمّمٍ خطرة. وصار الناس يقتِّرون في استخدام الماء ويدخرونه للحاجات القصوى كسقاية الأطفال وغسل الجروح وتحضير ما أمكن من طعام. من سيأبه في خضمّ كل هذا بِرَيِّ وردةٍ وحيدةٍ تعيشُ في أصيصٍ على شباك بيتٍ دمشقي؟
ماتَ كميل.
وجدَ نفسه في السماء للمرة الثانية. أمامه طفلٌ في التاسعة بجناحين أبيضين كبيرين. وقبل أن يبدأ الملاكُ الصغير بالكلام عاجلَه كميل:
— لا أريد العودة إلى الأرض. أبقوني هنا واجعلوني ملاكاً حارساً. وإذا أمكن ضمّوني إلى فوج الملاك باسم، الرجل صديقي وبيننا معرفةٌ جيدة من رحلةٍ سماوية سابقة.
لم تتغيّر ملامحُ الملاك/ الطفل كثيراً. ثبّتَ نظره في عينيّ كميل وقال:
— نِعمَ القرار. فِرَقُ الملائكة الحارسة في نقصان مستمر والسماء بحاجةٍ إليك، أهلاً وسهلاً بك. أما باسم فيؤسفني أن أخبرك بأنه مات.
— مات؟ كيف؟
— لقد أُرسِلَ إلى الأرض في مهمة لإنقاذ فتاةٍ عالقة تحت أنقاض بيتها المقصوف. تمزّقَ جناحاه خلال العملية ولم يتمكن من العودة، فمات.
كتم كميل شتيمةً غاضبة ولعنَ الأرض في سرِّه مكمن الأذى والشرور. ثم تابع يسأل محدِّثه:
— إلى أين كانت المهمة؟ وأين مات؟
أطرقَ الملاك الصغير وغاب صفاء وجهه. مسحَ دمعةً ساخنةً وقال:
— كانت المهمة إلى الموصل. لقد ماتَ في بلدي، في العراق.
لم يعد كميل قادراً على الفهم أو الاحتمال؛ ماذا يفعل؟ إلى أين يذهب؟ ما النفعُ من رحلاتنا إذاً وما الغاية؟ لقد أمست الحياة في عينيه بلا جدوى، ولا رجاء فيها للكائنات بعدما جعلَ البشرُ كل ما في السماء يماثل ذاك الذي على الأرض.
* سوريا/ كندا
(*) من مجموعة: «محاولة متأخّرة للبكاء» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ــــ 2019)