في العرض الأول في الصفحة، قدمنا مؤلفاً نظرياً إلى حد ما عن الأنثروبولوجيا البحت. وفي عرضنا هذا سوف نتابع النظر في الأنثروبولوجيا النظرية، لكن مع تطبيقاتها أيضاً. القراء المتابعون يعرفون الكاتبة وهي الأنثروبولوجية الأميركية ليزا وين من مؤلفها السابق pyramids and nightclubs الذي صدر بالعربية بعنوان «سياحة الليل سياحة النهار». في كتابها «الحب والجنس والرغبة في مصر الحديثة. التنقل في هوامش الاحترام» (منشورات جامعة تكساس ـــ 2018)، تشرح الكاتبة علاقتها بالأنثروبولوجيا وأعمالها الميدانية ذات الصلة عبر استعراض مجموعة من العلاقات الشخصية التي تعرفت إليها في محيطها المباشر في مصر، بين شابات وشباب على نحو عام، وكيفية تطورها ومنتهاها بعد مرور عقد ونصف عقد. هي روايات عن سارة، وآية وزيد، وكريم، وجورج ونسمة، وملك، وعلياء وهارون، ونيللي وأحمد، لكن ليس عنهم فقط. إذ إنها تقحم روايتها هي وعلاقتها بزوجها العربي الأسبق في طيات العمل، علماً بأنها قضت بعض الوقت في السعودية مع والديها اللذين كانا يعملان هناك. هي تؤكد للقارئ أنها لم تذهب إلى القاهرة لدراسة الحب والرغبة في المجتمع المصري. لقد أنجز هذا العمل لأن هذا ما أراد كل شخص عرفته التحدث فيه، وتضيف إنّ «الأنثروبولوجيين لا يعدون أن الإلغاء الكامل لموضوع بحثهم هو الفشل، بل إنه دليل على أنهم يفعلون بالضبط ما يفترض بهم القيام به: أي ترك أبحاثهم تتشكل من خلال الواقع الذي يجدون أنفسهم فيه في هذا المجال وليس من خلال ما يبحثون عنه».


إنجاز هذا العمل عن الحب والرغبة والجندر والجنس والاحترام استغرق أكثر من عقد، شاهدت خلاله الكاتبة أصدقاءها في مصر يتواعدون غرامياً ويحبون ويتعاركون ويتشاجرون ويتزوجون ويقيمون علاقات جنسية خارج الزواج، كما كتبت آراءهم حول انهيار زواجها.
تضيف الكاتبة إنها شاهدت ثورة تجتاح البلاد، وتظاهرات جماهيرية في أجساد النساء والرجال، كتجربة جنسية أصبحت متداخلة مع النشاط السياسي، والاعتداء الجنسي أصبح أداة لنظام يحتضر، وبعد ذلك عندما قام الناشطون المصريون بتحدي المعايير الجندرية والعنف الجنسي.
هي ظنت أنها بدأت تدرك المفاهيم. لكن بعد عقد من توثيق ما ظنت أنه قصة حب عظيمة، اضطرت إلى إعادة التفكير في كل شيء ظنت أنها تعرفه عن الحب والرغبة عندما كشفت إحدى صديقاتها المقربات في مصر أن حبيبها ساعد أحد أقاربه على اغتصابها، وأنها استمرت في حبه بعد ذلك، وبقيت تحبه إلى أن تخلى عنها. الصدمة كانت إدراكها أنها لم تفهم شيئاً عن الحب إذ لم تتمكن من توضيح العلاقة بين الحب والعنف. فقد كانت متحمسة لاستكشاف مجموعة من المدونات الأخلاقية والثقافات الفرعية المختلفة في القاهرة. وهذا يعني معرفة أبعد من المثالية البورجوازية المهيمنة للأنوثة المحترمة التي حثها زوجها على تبنيها. فقد أراد لها تعلم مجموعة معينة من القيم الثقافية التي أيدها، لكنها أرادت تعلم أكثر من مجرد روايته المثالية للثقافة العربية. فالرجال والنساء ينخرطون في أدوار جنسانية مقبولة اجتماعياً، ما يخلق قصصاً عن النفس تتشارك في الوقت نفسه في تلك المثل الاجتماعية وتتحداها، وتؤكد السلوكيات أو تخفيها وفقاً لحاجتها إلى تقديم شخصيات اجتماعية مختلفة، لكنها أيضاً تدعي الاحترام الاجتماعي، بغض النظر عن سلوكها. حتى المشتغلات في الجنس والراقصات الشرقيات يصفن أنفسهن بأنهن محترمات ويطالبن مِمن حولهن باحترامهن.
التجربة الجنسية أصبحت متداخلة مع النشاط السياسي خلال الثورة


في الوقت نفسه، هي ترى آخرين ينتقدون النساء ويطلقون عليهن صفة المومسات، سواء كن يبعن الجنس أو لا. لذا، تركز الكاتبة على نحو خاص على احترام المرأة كتمثيل، بغض النظر عن أفعالها، والتي يتم بناؤها من خلال لقاءات بين الموضوعات. فالنساء وأقاربهن يخلقن تاريخاً أخلاقياً مثالياً لأنفسهن. هذه المحاكاة تفتح الإمكانيات للمناورات الخلاقة، ليس فقط في البناء الاجتماعي لهوياتهن الأخلاقية، لكن في سعيهن إلى الحب والرغبة.
السرد الإثنوغرافي الذي قدمته الكاتبة يكشف شيئاً ما من الطريقة التي تكشف المعرفة فيها عالم الأنثروبولوجيا تدريجاً من خلال مزيج دقيق من الاستماع والاستجواب وبناء الثقة. كما يوضح الطرق التي تكون بها معرفة عالم الأنثروبولوجيا جزئية، فتقول: «تعلمت التعبير علناً ​​عن حبي لزوجي في ثقافته، وأنا استخدم هذا كنقطة انطلاق للبدء في مناقشة العلاقة بين الغيرة والحب. إن الكتابة عن عالم الأنثروبولوجيا في الاثنوغرافيا هو موقف فلسفي واستراتيجية سياسية».
الافتراض الأساس حول معظم الكتابة الإثنوغرافية، بحسب الكاتبة، هو استخدام أسماء مستعارة وتغيير تفاصيل تحديد الهوية من أجل إخفاء المخبرين، كمسألة أخلاق أنثروبولوجية. لكن يكاد يكون من المستحيل إخفاء هوية شريك عالمة الأنثروبولوجيا التي تنشر باسمها. هي تعترف بأنها اضطرّت إلى السير في خط لا يصدق، واصفة تجربتها الخاصة مع الاعتراف الإضافي بأن هناك روايات أخرى يمكن سردها عن علاقاتها الحميمة، وتجنب الكتابة عن زوجها إلا إذا كانت قصته غير قابلة للتجزئة وقصتها كانت بدورها لا تنفصم عن عملية اكتساب المعرفة الأنثروبولوجية.
أخيراً، نعدد فصول المؤلف لمنح القارئ فكرة عن مجالاته على نحو مفصل:
1) الأجانب مثل الأشياء التي تبدو قديمة ومظلمة، ليست لامعة.
2) المحاكاة والقرابة والهدية والأشياء الأخرى التي تربطنا في الحب والرغبة.
3) لماذا لا يمكنك دراسة النساء المحترمات؟
4) المحاكاة والنوع والجنس، والجنس في سياحة الشرق الأوسط.
5) العالم السفلي: الراقصات والعلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج واحترام المرأة.
6) الهدية، البغي: المال والحميمية.
7) «جرائم الشرف»: في الكتابة الأنثروبولوجية ضمن نطاق الاقتصاد السياسي الدولي للتمثيل.
8) القرابة والشرف والعار.
9) الحب والثورة والعنف الحميمي.
الخاتمه: خمسة عشر عاماً لاحقاً.

* Love, Sex, and Desire in Modern Egypt: Navigating the Margins of Respectability. Texas university press, 2018. 256 pp. lisa wynn