ما يميز عبد الكريم جويطي (مواليد بني ملال ـ المغرب 1962) في مختلف أعماله الروائية، هو تلك القدرة المذهلة على التنقيب في تفاصيل مُغيّبة من تاريخ المغرب، والتقاطها بذكاء. غير أن الكاتب في عز انشغاله التاريخي، لا يسعى إلى إعادة كتابة الماضي، بل إلى تحليل الحاضر، لكن انطلاقاً من جذوره. مَن يتعقّب مسار الكتابة لدى جويطي، سيكتشف أن مهمة الروائي هي قراءة المجتمع، وتفكيك بُناه عبر الوقوف على تاريخه السياسي والشعبي. وهذا العمل يحتاج إلى دراية بالتاريخ والسوسيولوجيا والنقد والفكر والسياسة. تبدو هذه الحقول المعرفية حاضرة في كتابات الرجل. إنه يذيبها في صهاريجه الخاصة، ليقدم لنا بعد عمليات خلقٍ متعاقبة، أعمالاً روائية تشبه القارئ، غير أنها لا تهادنه، بل تزعجه وتخلخل طمأنينته، تعرّيه وتدعوه إلى إعادة اكتشاف الواقع الذي ينتمي إليه. من هنا، تستمد أعمال جويطي مشروعيتها، ومصداقيتها لدى القرّاء، خصوصاً داخل المغرب، وتملك بالتالي تلك القدرة على الانتشار وتحقيق نسب كبيرة على مستوى المقروئية والتداول. يشتغل الرجل على أعماله بشكل يومي، وإن كان كل عمل له يأخذ سنوات من الكتابة وإعادة الكتابة، فمردّ ذلك إلى الجهد الذي يبذله من أجل إنتاج عمل إبداعي بلغة أخاذة، وببناء سردي يجعل المتلقي يقرأ الرواية ويعيد القراءة مرةً ومرتين وربما أكثر. فضلاً عن كتب في التاريخ والترجمة، أصدر عبد الكريم جويطي سبعَ روايات: «ليل الشمس» (1992)، «رمان المجانين» (1998)، «مدينة النحاس» (2004)، «زغاريد الموت» (1996)، «الموريلا الصفراء» (2002)، «كتيبة الخراب» (2007)، و«المغاربة» (2016) التي حققت نسبة استثنائية في التداول والانتشار والشهرة، كُتب عنها أكثر من مئتي مقال ودراسة، وعُقدت حولها العشرات من اللقاءات في الجامعات والتظاهرات والمؤسسات الثقافية في المغرب، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» سنة 2017، وحصلت على «جائزة المغرب للكتاب» في العام ذاته. في هذا الحوار، يفتح الكاتب صدره لـ «الأخبار»، لندخل معه إلى ورشة الكتابة، ونقترب من طبخته السرية، ليحدثنا عن السبب في إعادة إصداره طبعة جديدة من روايته الأولى «ليل الشمس» (1992)، وعن سبب نجاح روايته الأخيرة «المغاربة»، وليشرح لنا مبررات تشبّثه بمدينته، والتضحية بمنصب أهمّ من أجل البقاء فيها، عن ترجمته للشعر، وولعه بكرة القدم وبكائه أثناء الكتابة، وليكشف لنا رأيه في وفرة الكتّاب بسوق الرواية وسباق الجوائز المخصصة لها.
الغنائية من الأعطاب الكبرى للرواية العربية، فنحن نحتاج للتحليل والتفكيك وليس للخطابة

صرّحت مرةّ بأن «الرواية حمار الإبداع»، ألا يبدو لك هذا الحكم قاسياً؟ كيف تنظر إلى هذه الوفرة اليوم في الرواية وحمى الاهتمام بها على حساب أجناس أدبية أخرى؟
- كتابة رواية مهمة شاقة ومكلفة تتطلب ثقافة واسعة وتمكنّاً من تقنيات الكتابة. الملاحظ أن الرواية فقدت تلك الهيبة التي كانت لها، على الأقل بالنسبة إلى الجيل الذي أنتمي إليه. كل كاتب اليوم هو مشروع روائي سواء كتب الشعر أو المسرح أو القصة أو حتى الفكر والفلسفة والتاريخ. وهناك مفارقة مشهودة، فبقدر ما حُطمت المدن التي كانت تحمل مشاريع تنويرية كبغداد وبيروت ودمشق والقاهرة، وبقدر ما سيطر التدين الاستعراضي والنكوصي على المجتمعات العربية، بقدر ما صار هناك شبه نزوح جماعي للرواية التي هي جنس خالص للحداثة وللمدينة. نأتي دوماً متأخرين للأشياء. أعتقد أن المجتمعات العربية ما زالت أسيرة الغنائية، وكل هذه الوفرة من الروايات كاذبة، لا تعكس تحولات جذرية في المجتمعات العربية، والدليل على هذا الغث والزبد الذي تغرق في طوفانه النصوص الروائية الحقيقية والمجددة. أعتقد أننا لم نفهم بعد بأن الرواية عمل معرفي كبير حول واقع معقد ومتشابك. والخدمة التي تقدمها للثقافة التي تكتب فيها هي أنها تحطم وتخرب وتسائل، وتغنم مساحة من الخيال واللغة الجديدة في مجتمعات يخنقها التقليد والانتصارات المتتالية للماضي.

أصدرتَ أخيراً طبعة جديدة من روايتك الأولى «ليل الشمس» التي صدرت مع مطلع التسعينات. ما السر في العودة إلى هذا العمل بعد حوالى عقدين من صدوره؟ ألا تخاف أن يؤثر كتاب من «البدايات» على مسار التلقي، خصوصاً أنك تعيش الآن مرحلة من التوهج، فروايتك الأخيرة «المغاربة» حققت نسبة مذهلة من التداول في تاريخ الأدب المغربي؟
- يقال لي دوماً: «أين هي النصوص التي كتبت قبل رواية «المغاربة»؟ نسأل في المكتبات ولا نجد شيئاً». باستثناء «المغاربة»، لا يوجد في المكتبات نص آخر لي. ففكرت مع «المركز الثقافي العربي» في إعادة نشر كل نصوصي الروائية التي أعتز بها، وكل واحد منها يجسد مرحلة من حياتي وتطور كتابتي. وكم أفرح حين أقرأ للبعض احتفاءً برواية «ليل الشمس» التي كتبتها بين عاميّ الرابع والعشرين والخامس والعشرين، مع اعتقادهم أنها كتبت بعد «المغاربة». كل نص هو قطعة مني، ولو أنني أعرف بأن التاريخ الأدبي فظ لا يرحم أحداً، وسيهيل تراب النسيان على أغلب ما يكتب ويحتفظ بأقل من القليل، فإنني آمل أن ينجو أحد نصوصي من آلة المحو الرهيبة ويواصل الحياة في المستقبل.

حظيت هذه الرواية حينها بـ «جائزة اتّحاد كتّاب المغرب للأدباء الشباب»، ورأى بعض النقاد أنّها بوابة جديدة لتحوّل السرد في المغرب.
- حين حصلت على الجائزة، قلت في أول تصريح إعلامي لي: «بما أن هذه الجائزة رهان على المستقبل، فإنني أراها ورطة بالنسبة إلي، ستنتقل علاقتي مع الكتابة من اللعب إلى المسؤولية». وحين صدرت، اكتشفت أنّ شرطياً يحفظها عن ظهر قلب. وكتب أحدهم في فيسبوك بأنه هو أيضاً حفظها. وقال أصدقاء كثر بأنها حرضتهم على الكتابة. كل هذه الأمور تشعرني بأن الكتابة أمر عظيم ومسؤولية كبرى، لأنها تملك القدرة على أن تهب معنى ومتعة لقراء لا تعرفهم، ولأنها تلامس أشياء عميقة بداخلهم، يحسّونها لكنهم يفتقدون القدرة على فهمها وكشفها وإخراجها لعراء النظر. وأنا بصدد إعدادها لطبعة جديدة راودتني فكرة إعادة صياغة بعض الجمل، لكنني أنهيت المراجعة من دون أن أمس جملة واحدة. كتب الصديق الناقد شعيب حليفي مقالاً نقدياً عن الرواية اعتبر أنها فتحت الباب لهوية جديدة في السرد المغربي. أرى هذا جائزة بحد ذاته لنص كتبه شاب في هامش مدينة صغيرة لم يتهم فيها أحد بشبهة الكتابة لا الروائية ولا الشعرية، شاب كان يجد في الكتابة عزاء الصراخ في وجه العالم.
إن كانت البدايات تستهوي المؤرخ، فإن الروائي يلاحق دوماً النهايات والغروب، فهناك، تتجلى هشاشة الإنسان القصوى


على ذكر «جائزة اتّحاد كتّاب المغرب للأدباء الشباب»، روايتاك «كتيبة الخراب» و«المغاربة» وصلتا في دورتين مختلفتين إلى اللائحة الطويلة لجائزة «بوكر» في نسختها العربية. ونالت «المغاربة» جائزة المغرب للكتاب. كيف تنظر لمسألة الجوائز هذه، خصوصاً مع النقاش أو الاحتجاج الذي يصاحب الإعلان عن نتائج «بوكر» كل سنة؟
- أعتقد أن الثقافة العربية، وخصوصاً في مجال الرواية، فشلت في خلق جائزة لها صيت عالمي ومصداقية كبيرة، مثل الجوائز العالمية المعروفة. الأمر لا يتعلق بالشرط المادي بتاتاً، وإنما بتحصين الجائزة ووضع آليات أكاديمية يأخذ فيها كل نص متبار حقه في القراءة والتقويم. أكاد أجزم أن أغلب النصوص لا تُقرأ في كل الجوائز، وفي أحسن الأحوال تقرأ الصفحات الأولى فقط. كيف لمحكّم أن يقرأ 130 نصاً روائياً في ثلاثة أشهر!؟ الجوائز لا تقتل نصاً ولا تحييه، كما قلت مراراً. من يفعل ذلك هم القراء. ومع أنني أرى أن الناس أحرار في جوائزهم يعطونها لمن شاؤوا، فإنه بالإمكان رؤية كل أعطابنا في جوائزنا أيضاً. لا يمكن للعالم العربي أن يصل إلى كل هذا الانحطاط والتفسخ والهوان المهول وتكون جوائزه نقية طاهرة!؟

دعنا نعود إلى عملك الروائي الأشهر «المغاربة». كنت تكتب مقاطع من هذه الرواية وأنت تبكي. هل يتعلق الأمر بمناحة ذاتية ترتبط بتاريخ البلاد، أم بحالة يأس من شعب غير قادر على التحكم في مصيره؟ أم أنّ ثمة أسباباً أخرى؟
- الكتابة بالنسبة إليّ حاجة وجودية. حاولت كتابة رواية وأنا صغير جداً، وعشت وسط الكتب أكثر مما عشت وسط الناس. الكتابة شيء جدي وعظيم ومحفوف بأهوال كثيرة، لعل أبسطها سؤال: «من أنا لأكتب للناس وأكلفهم أياماً يقتطعونها من مشاغلهم وحياتهم ليقرأوا؟». هناك وقاحة كبرى في الكتابة لا يخفف منها إلا الصدق. أكتب بصدق دوماً وبتأثر، لأنني أحس بأن ما سأحكيه يستحق ذلك. بكيت أثناء كتابة «المغاربة» وأبكيت الكثير ممن قرأوها. صديقة كاتبة كتبت بأنها بكت ثلاثة أيام متتالية بعد إتمامها قراءة الرواية. كتبت النص عن العجز والإعاقة الفردية والجماعية، وأنا الذي لا أقدر على قتل ذبابة مزعجة، كيف لي أن لا أتأثر بالمآسي التي حبلت بها؟

يحس قارئ الرواية كما لو أنه يسير في كرنفال من اللغة، ثمة أيضاً نصوص شذرية تتقاطع مع قصيدة النثر المقطعية. كيف يتسرب الشعر إلى السرد؟
- أتصور بأن الغاية البعيدة لكل كتابة هي أن ترتقي إلى مقام الشعر. الشعر سيد الكلام، كما قال مالارميه، ومن ذا الذي لا يريد من كتابته أن تصير سيدة؟ الشعر، كما أتصوره، ليس ترصيفاً للكلام، ولا نحتاً لصور بلاغية. إنه بحث عن دهشة اللغة إزاء العالم، يعيد الشعر العظيم تسمية العالم ويقلّب تربة الكينونة التي لا تتحقق إلا من خلال اللغة، لذلك فكل ما هو عميق في الكتابة ينتسب إلى الشعر. منذ هيغل، صرنا نعرف بأن الرواية تستوي حول صراع بين شعرية القلب ونثرية العلائق الاجتماعية. في كل الروايات شعر معذب وممزق بين ما في الداخل من أحلام وأفكار ورؤى، وما يتحقق في الخارج. تقوم الروايات على اقتصاد سردي لا ينبغي معه الإفراط في الغنائية وملاحقة الصور الشعرية. كثير من الروايات وبعضها مشهور جداً فيها إفراط في شعرنة الخطاب وإسفاف في بناء «رومانيسك» متماسك. حاولت في رواية «المغاربة» التعامل بحذر شديد مع هذا الميل للغنائية، وهو في نظري من الأعطاب الكبرى للرواية العربية، وكبحت مراراً رغبة في الاسترسال الشعري. نحن في حاجة للتحليل والتفكيك وليس للخطابة.

هناك عودة قوية للدين، استفادت من ريع النفط وما وفره من إمكانيات هائلة لدعم التقليد


لا تضع عناوين للفصول بل تترك المهمة للقارئ وتطلب منه اختيار عنوان مما تقترحه. يتعلق الأمر هنا بإشراك القارئ في العمل؟
- نعم، القراءة تعيد كتابة النص وتحييه. وعلى النصوص أن تكون مضيافة ومفتوحة تبني، لكنها لا تتم البناء، وإنما تترك أجزاء على القارئ تكملتها. دعوة القارئ للمشاركة في اختيار العناوين هي دعوة أيضاً ليعيد تشكيل النص بحسب رؤيته. ثم علي أن أشير هنا إلى الفكرة التي دفعتني للقيام بذلك، وهي نوع من الحدس الذي بإمكان القارئ استشعاره. فالرواية تحكى من طرف الأعمى في المستشفى لرجل قد يكون مفتش شرطة جاء للتحقيق في الحدث، وقد يكون هو الكاتب نفسه بما أنه ابن المدينة التي وقعت فيها الأحداث.

النداء الديني الذي أنقذ شخصية الجندي المعاق أعادني إلى تجربة عمر الخيام، واكتشاف الصوت الذي حال بينه وبين الهلاك بأنه صوت داخلي. أعادني أيضاً إلى رواية «سدهارتا» لهرمان هيسه، ونهاية قصر الباشا تعيدنا إلى «خريف البطريك» لماركيز. فقط أبحث عن أثر المقروء في المكتوب، خصوصاً أنك تشير من حين إلى آخر إلى أسماء كتب وكتاب من أطراف العالم على لسان إحدى الشخصيات. ما حدود التثاقف في روايتك؟ وما وظيفته؟
- نحن حصيلة ما نعيشه وما نسمعه، لكن بالأساس وفي حالة الكتابة، ما نقرأه. قرأت كل النصوص التي ذكرتها وبكل تأكيد تأثرت بها وبغيرها. كثيراً ما يخيل لي أنني لا أكتب، وإنما أدعو كتّاباً قابعين بداخلي للحكي عن بني ملال. الإنسان، كما قال رولان بارت، عمق أسطوري، لذلك من الصعب جداً تتبع مسألة التأثيرات بدقة. لكل كاتب شجرة أنساب في الكتابة ينتمي إليها، شجرة لها جذور وجدع وأغصان وأوراق، ومطمحه هو أن يضيف لها ورقة يانعة. لقد حرصت منذ روايتي الأولى بأن لا أستنسخ أي تجربة. أمتص وأحول. الأمر أشبه بأخذ طفل من يده لرؤية شيء لم يره من قبل.

ماذا عن هذه الروح الفلسفية داخل الرواية، الحوار غير المباشر بين الطفل الأعمى والطبيب الروماني بازوف. الأول يرى أن العالم صنعه المعاقون والمرضى والمجانين، وأن الأسوياء لم يصنعوا سوى الحروب، بينما يرى الطفل العكس.
- هل بإمكاننا تصور عالم بدون كتب؟ نحن نعيش في عالم صنعته الحروب والمآسي وقهر الناس بعضهم البعض، وصنعته أيضاً الكتب. هناك مشترك إنساني بُني بمحاولات البشر لفهم الحياة ومقارعتها، لذلك نحن نحتاج دوماً لأصوات تشرح لنا وتفهمنا وتدلنا على ما ينبغي القيام به. لدينا ذاكرة فردية وذاكرة جماعية ونحن نغترف منها معاً، لنكون ما نحن عليه. ثم أحاول بتلك الإحالات القول إن الإنسان يعيش دوماً التراجيديات الكبرى للإنسانية أينما كان، سواء في مدينة صاخبة أو في عزلة واد في الجبل.

مهما تجبرت سلطة ما، فإنها لا تقوى على مواجهة عدو يأكلها من الداخل. إنه العطب واكتمال الدورة بالمعنى الخلدوني


الكاتب يتسرّب أحياناً إلى شخصياته، أقف مثلاً عند محاكمة كتاب «الأيام» لطه حسين، هذه المحاكمة التي يقوم بها الأعمى، بدا لي أن من يقوم بها هو الكاتب نفسه وليس بطل روايته.
- الأعمى حاصل على شهادة الإجازة في الأدب العربي. ما كتب عن طه حسين ليس رأيي. حين كان ينحدر نحو العمى، أعطاه العسكري كتاب «الأيام». كان ذلك مؤلماً جداً بالنسبة إليه. فهم بسرعة بأن حالته ميؤوس منها. وعليه أن يحضر نفسه لدخول نادي الشقاء. ما كتب فيه تمزق بين الإعجاب بطه حسين كإنسان، وفيه رغبة تحطيم الصنم والنجم البعيد الذي على كل العميان الاقتداء به.

أحب أن أتوقف معك عند النهاية الساخرة التي وضعتها لسيدي الصاحب، وليّ كان يشفي الناس ويتبرك مريدوه بعصاه التي قُدت من أشجار الجنة، لكنه انتهى مفضوحاً من لدن زوجته التي شهرت به أمام الخلق حين وجدته يرتدي تباناً أحمر مشبكاً لخليلته. هل يتعلق الأمر هنا بتصفية حساب مع القداسة الدينية في المجتمع المغربي والعربي على السواء؟
- في حكاية سيدي الصاحب، حاولت أن أقول بأن التدين المبني على ادعاء الكمال ينتهي بفضيحة. كيف لهذا الذي يدعي اجتراح الكرامات ألا يعرف بماذا ستر عورته!؟ هناك عودة قوية للدين، استفادت من ريع النفط وما وفره من إمكانيات هائلة لدعم التقليد، مجتمعات صارت تعتقد بأنها ابتعدت عن شيء عظيم، وعليها العودة إليه، بينما هي غارقة فيه منذ قرون. وجربت كل الحلول الدينية التي سبق أن عمل بها في الماضي، ولم تنتج سوى الدولة القهرية التي تتكلم باسم الله وتسوم الناس سوء العذاب. لم يدرك سي الصاحب معنى القداسة وهو محاط بتبجيل الناس وتشوفهم له، وأدرك ذلك حين نفى نفسه في المقبرة وصار لاشيء تقريباً. الدين شيء عظيم إن حقق لنا السلام الداخلي، وشيء سيئ إن كان وسيلة لاستغلال الناس وقهرهم.

الشيء ذاته ستفعله مع دار الباشا التي كان الجميع يهاب حتى الاقتراب منها، ثم تشققت جدرانها وصار السكارى يتبولون عليها. هو إذاً نقد قاس للسلطة المستبدة في الماضي القريب للمغرب؟
- مهما تجبرت سلطة ما، وحرصت على سحق الأعداء والمتربصين بها، فإنها لا تقوى على مواجهة عدو يأكلها من الداخل. إنه العطب واكتمال الدورة بالمعنى الخلدوني. كل سلطة متجبرة تحمل نهايتها بداخلها. لا شيء يدوم سوى المرارة. هزم الباشا كل خصومه إلا ما يعتمل في أحشائه من مرض، وانتهى كما ينتهي الجبابرة، ضعيفاً مهاناً، ينظر إلى الحياة بحقد عاجز من سيارة تجوب به الطرق طيلة النهار، ومات من دون أن يتنبه السائق لذلك. إن كانت البدايات تستهوي المؤرخ، فإن الروائي يلاحق دوماً النهايات والغروب. هناك، تتجلى هشاشة الإنسان القصوى.

أصدرت في الفترة الأخيرة ترجمة جميلة لشعر أمازيغي كُتب خلال النصف الأول من القرن الماضي من لدن شاعرة غانية. هل كان رهانك الانتصار لأدب أمازيغي غير متدوال كما يليق بقيمته، أم الانتصار لمصدره المهمش داخل المجتمع؟ أي الفتاة التي كانت تمارس البغاء.
- التقى رونيه أولوج، وهو معلم فرنسي يتقن الأمازيغية، بحكم عمله كمدرس في مدينة دمنات، سنة 1927، وفي ماخور في أزيلال، بفتاة أمازيغية مبهرة. منذ اللقاء الأول، اكتشف فيها شاعرة كبيرة، أحبها وصار يأتي مراراً لرؤيتها وتدوين أشعارها. أصيب أولوج بالعمى، وابتعد سنوات عن المغرب. وحين عاد، بحث طويلاً عن نور الشاعرة، لكنه لم يجدها في كل الأمكنة التي قيل له بأنها ذهبت إليها. اختفت الشاعرة وبقي الشعر المذهل. منذ أن قرأت ديوانها «أغاني تاساوت» (بالفرنسية) وأنا مفتتن به. قررت ترجمته، وسأكتب رواية مستلهمة من أشعارها وعلاقتها مع أولوج. تريك أشعار مريريدة أن الشعر ليس لغة فحسب، وإنما حدس عميق وبناء كيمياء من المشاعر في مواجهة العالم. تقول مريريدة في إحدى قصائدها: «وادينا صغير والعالم كبير». لكنها بالشعر تمكنت من أن تذل العالم وتجعله صغيراً كخرم إبرة.

الغاية البعيدة لكل كتابة هي أن ترتقي إلى مقام الشعر. الشعر سيد الكلام، كما قال مالارميه، ومن ذا الذي لا يريد من كتابته أن تصير سيدة؟


تلقيت ترقية في العمل، مقابل الانتقال من مدينتك بني ملال إلى مدينة أخرى. لكنك ضحيت بالترقية من أجل البقاء فيها. ما سر هذا الارتباط بمدينة ربما يفكر كثير من أهلها في مغادرتها؟
- أضعت الكثير من فرص مناصب مهمة لأبقى في مدينة بني ملال، التي حرمتني من أشياء عدة، لكنها منحتني الكتابة. منذ زمن بعيد، عرفت أنني لن أفارقها. أحس بالمدينة تعيش بداخلي وأعتبرها بيتاً كبيراً لي، وأرى العالم مجسداً فيها. عاشت بني ملال ما عاشته كل المدن من سوء تخطيط وتسيير، غير أنها عاشت وتعيش مأساة إعدام جنانها وبساتينها وغابات الزيتون التي كانت محيطة بها. هذا جرح كبير في حياتي، أكتب دوماً ومرارة ذلك تنزف.

أنجزت بحثاً تاريخياً من ثلاثة أجزاء عن مدينتك والجهة التي تنتمي إليها، هل كان هذا العمل ردّ دين؟ أم أنّ له سياقاً آخر؟
- كتبت كتاب «تاريخ بلاد تادلا» في ثلاثة أجزاء، مباشرة بعد كتابة «المغاربة». وأنا أحضر نفسي لكتابتها، ألزمت نفسي بقراءة تاريخ المغرب في مصادره ومراجعه، وكنت أنتبه لذكر بلاد تادلا وأنا أقرأ. تكوّن لديّ تصور شامل عن التاريخ المحليّ، وقررت كتابة هذا العمل الذي أعتز به وأعتقد أنه سيكون مرجعاً لا غنى عنه في موضوعه.

كنت مولعاً بكرة القدم، وكنت رئيساً لفريق محلي. هل توقف هذا الولع؟
- رغم أنني ابتعدت عن فريق المدينة، فإنني ما زلت أتابع نتائجه. لم أعد أشاهد الكرة بالشغف نفسه إلا حين يلعب آية الله في الملاعب «ميسّي». معه تحس أن كل شيء ممكن، وأن الحياة غنيمة خالصة للسريع والماكر. تحس وأنت تراه يلعب بأنه لا يفكر ولا يقرر، إنه يترك لجسده الحرية التامة في صنع ما يشاء. يهديك «ميسّي» بجسده القصير والضعيف ولعبه الجبار أن الحياة تصنع القوة وتمجدها، وتهزأ منها من حين لحين بمعجزات حية مثل «ميسّي».