غطّت دراسة الدكتور عزام عبدالستار شعث في كتابه الجديد «توجهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي-الإسرائيلي» (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ــ بيروت) المرحلة الزمنية من 1964-2017 والممتدة منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، «بغية تتبُع بدايات تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير». وقد استخدم المؤلف للإجابة عن تساؤلاته البحثية، شبكة متعددة من المناهج والمقتربات للوصول إلى النتائج المطلوبة لإثبات أو نفي فرضياتها من خلال الاقترابين التاريخي والوصفي التحليلي. كما اعتمد في أدوات جمع البيانات، على الإفادة من المصادر الأرشيفية للحركة الوطنية الفلسطينية وللإنتاج الفكري لأعضاء النخبة السياسية، وأيضاً على صحيفة الاستبيان وشملت «50 مبحوثاً من أعضاء النخبة الرسمية الفلسطينية يمثلون السلطتين التشريعية والتنفيذية في منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية (المجلس التشريعي، اللجنة التنفيذية ومجلس الوزراء)، والقيادات الأول للقوى والتنظيمات الفلسطينية من أعضاء المكاتب السياسية للتيار الوطني الفلسطيني (حركة فتح) وتيار اليسار الفلسطيني (الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب) والتيار الإسلامي الفلسطيني (حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس ـ ص 22)يمكننا اعتبار نتائج الدراسة بمثابة مرآة للواقع الفلسطيني في شقه القيادي النخبوي (كما هدفت الدراسة)، وسيجد القارئ في هذه المرآة ما سيظهر تباعاً في هذه المقالة المختصرة، لأن الملفت ما تضمنته نتائج الدراسة الميدانية وفيها عرض لتحليل البيانات واختبار فرضيات الدراسة (ص189) من خلال الإجابة عن أسئلة الدراسة واستعراض أبرز نتائج الاستبيان التي تم التوصل إليها من خلال تحليل فقراته والوقوف على متغيرات الدراسة التي اشتملت على: الجنس، الحالة الاجتماعية، مكان الإقامة، المؤهل العلمي، العمر، الانتماء السياسي والمسمّى الوظيفي.
على سبيل المثال، وفي خصائص العيّنة وفقاً للبيانات الشخصية للمبحوثين اتضح ما يلي: الجنس حيث نسبة الذكور 86 % والإناث 14%، كما أنّ 96 % هم من المتزوجين مقابل 4 %، وأن 96 % من أفراد العيّنة يقيمون في الوطن مقابل 4% خارجه، وأن 42 % وفقاً للمؤهل العلمي يحملون الدرجة العلمية الأولى (الدكتوراه) و24% درجة الماجستير و32% بكالوريوس و2 % أقل من درجة البكالوريوس. هذا الارتفاع في مستوى التحصيل العلمي يعكس أهمية التعليم بالنسبة إلى الفلسطينيين. أما أغلبية الفئة العمرية، فتقع ضمن 61 عاماً وأكثر «وهذه النتيجة تعكس واقع تشكل النخب السياسية في فلسطين والمتمثل في استمرار أعضاء النخبة في مواقعهم القيادية لفترات طويلة» (ص193)، في حين أنه وفقاً للانتماء السياسي، فإن التيار الوطني هو الأول يليه التيار اليساري ثم التيار الإسلامي والرابع هم المستقلون.
72 % منهم يؤيدون إنهاء اتفاق أوسلو


كما تشير نتائج فقرات محور «الأهداف الوطنية الفلسطينية» إلى أن 44 % من المبحوثين يؤيدون إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 في ضوء مشروع حل الدولتين، بينما 60 % لا يريدون الاعتراف «بدولة إسرائيل وحقها في الوجود و72% يؤيدون هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني و86% يرون أن المشروع الوطني الفلسطيني لا يقتصر على الدولة فقط، و84% يرون أن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين ما زال جزءاً من المشروع الوطني الفلسطيني، و46% قالوا إن منظمة التحرير الفلسطينية تخلّت عن برنامجها السياسي التاريخي إلى حد ما» (ص196)، إضافة إلى أن 72 % يعتقدون أن أشكال النضال كافة في مقدمتها الكفاح المسلح ما زالت صالحة لنيل الشعب الفلسطيني حقوقه، و80% يعتقدون أن المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلة بعد إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل لم تعد ذات جدوى وطنية، في حين أن 72% يؤيدون إنهاء اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل إلخ (من ص215).
تشي هذه الأرقام ونسبها المئوية بأن وضعاً سليماً ومعافى في البيئة النضالية الفلسطينية لنيل الحقوق وتحرير الأرض، ما يدفع إلى التساؤل حول انخفاض هذه المعافاة التي تتجلى في واقع يقارب اليأس في مقاربة بعض أطراف هذه النخب وخاصة السلطة من جهة واهتزاز الثقة لجهة رمادية المواقف الشعبية من هذا التردّي، لا سيما في باب التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي من جهة ثانية (باستثنائية مقاومة وصمود غزة)، أو لناحية الأخطار الداهمة المتسللة من باب صفقة القرن ونوايا القائمين عليها لتصفية القضية الفلسطينية؟! فما هو معنى النخبة وتسنّمها مقاليد القيادة في الحرب وفي السلم؟ وإذا كانت حسب التفسيرات اللغوية تعني القلة والاصطفاء أو التميز، فما هو؟ ومتى تُترجم هذه النخب أفعالها بعد أقوالها؟
يربط شعث النخبة بالقدرة على التحكُّم بموقع اتخاذ القرار، معتبراً أنّها نتاج للبناء المؤسساتي في الدولة (ص12). من هنا تناولت الدراسة النخبة السياسية الفلسطينية في الأشخاص الذين يحتلون المناصب الرسمية في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية وقيادة القوى والفصائل الفلسطينية المنضوية وغير المنضوية تحت إطار منظمة التحرير، وهؤلاء يسهمون في صنع القرار السياسي، وبالتالي يؤثرون في إدارة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وحله.
وقد أثارت إشكالية الدراسة مجموعة من التساؤلات الرئيسية والفرعية (ص18) والهدف من ذلك تقديم بحث متكامل عن آليات تشكُّل النخب في إطار النظام السياسي الفلسطيني بمكونيه المنظمة والسلطة، وأيضاً في تحليل توجهات أعضاء هذه النخبة نحو مستقبل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. هكذا، يذكر المؤلّف أنّ منظمة التحرير شكلت أول نظام سياسي فلسطيني يُنتج نخبته الوطنية ومنها المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي، باعتبار أن المجلس الوطني أعلى سلطة في المنظمة ويختص في المسائل الدستورية والقانونية والسياسية، لافتاً إلى تميُّز دورته الرابعة المنعقدة سنة 1968 بانضمام ما بات يُعرف بسيطرة المنظمات الفدائية على منظمة التحرير (ص40). مع العلم أنّ تشكل النخب في إطار منظمة التحرير كان يخضع للمحاصصة الفصائلية ونظام الكوتا. لهذا كانت النخبة التشريعية في إطار المجلس التشريعي الفلسطيني 1996-2005 أول تجربة في هذا السياق، مع الإشارة إلى سيطرة الفصائل المؤيدة لاتفاقية أوسلو وفي طليعتها حركة فتح على غالبية مقاعد المجلس التشريعي (ص78). لكن «لم تشهد هذه المرحلة إنتاج نخب فلسطينية جديدة فالنخبة هي النخبة نفسها» (ص79). كما أظهرت نتائج هذه الانتخابات انخفاض تمثيل المرأة، وهيمنة المدن على القرى والمخيمات، وارتفاع نسبة الأكاديميين والمتخصصين، لكن مع تدني المتخصصين في العلوم العسكرية وفقاً لجدول التخصص العلمي (ص 81)، أما في المجلس التشريعي الفلسطيني 2006، فقد تميز بفوز حركة «حماس» وتراجع مكانة حركة «فتح» في الانتخابات التشريعية الثانية. ولذلك أسباب عديدة منها انسداد أفق التسوية السياسية مع إسرائيل، وتعطيل النشاط السياسي والتنظيمي لحركة «فتح» من خلال اندماجها في مؤسسات السلطة (ص 83)، و«التنافس الاقتصادي بين النخب» (ص95)، (هنا يمكننا الإشارة إلى ملف متكامل نشرته مجلة «دراسات فلسطينية»/ المجلد 15/ العدد 59/ صيف 2004 حول تقارير عن الفساد في السلطة ومن حولها في قضية بيع الإسمنت المصري بسعره الرخيص إلى السوق الإسرائيلي ومساهمته في بناء جدار الفصل العنصري)! وأيضاً هناك الأزمات التي شهدتها حركة «فتح» عقب استشهاد الرئيس ياسر عرفات والتناحر بين قيادة الحركة. وقد أظهرت نتائج انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني الثاني في سنة 2006 أيضاً انخفاض تمثيل النساء، وهيمنة سكان المدن على البلدات والمخيمات والريف، ودخول مسيحيين إلى هذا المجلس، وقياديين في سجون العدو (مروان البرغوتي وأحمد السعدات من بينهم).
لقد تميزت هذه الدراسة برشاقة البحث، وأسلوبه العلمي في تحري واقع النخب الفلسطينية وتشكلها وتوجهاتها، لكنّ نقصاً لا يمكننا التغاضي عنه وهو افتقار تحليل المحتوى السياسي لهذه النتائج، بمعنى غياب الربط بين التحولات التي أدرجها شعث وبين المحطات السياسية العربية والدولية التي لطالما حكمت العديد من محطات النضال الفلسطيني، إذ إن غالبية هذه التضحيات كانت تنتهي على مذابح الوعود الكاذبة بإيجاد حلول لهذا الصراع، ولهذه القضية التي دخلت في كل التجارب المسلحة والسلمية والتسووية والرمادية وفي الصراعات الجانبية القاتلة، وما زالت.
في الختام، لا يمكن لأي عاقل إلا أن يبدي الموافقة مع المؤلف بعد استعراض ما تضمنته فصول الدراسة (خمسة فصول وملاحق باستمارة الاستبيان، وبأسماء النخب والمواقع التي احتلوها بين 1964-2017) بأن القضية الفلسطينية ما زالت تمثل جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، وعلى أساسها تتشكل طبيعة العلاقات بين دول الإقليم.
* صحافية لبنانية