يصعب اختزال شخصية فريدريك نيتشه ( 1844 - 1900) بجملة واحدة، ذلك أن هذا الفيلسوف الألماني المتمرّد، أثار أكثر من عاصفة فلسفية في تفكيك الفكر الأوروبي، من دون مهادنة، داعياً إلى «أفول الأصنام» وتحطيمها. في كتابه «نيتشه مكافحاً ضد عصره» (دار فواصل ـــ ترجمة حسن صقر)، اقتفى رودولف شتاينر (1861 – 1925) أثر صاحب «هكذا تكلّم زردشت» بوصفه واحداً من الذين «بسطوا ظلهم على القرن العشرين بعدما أنكره عصره»، وفقاً للمقدمة الرصينة التي كتبها المترجم للطبعة الجديدة من الكتاب، نظراً إلى راهنية نيتشه وحضوره الإشكالي، فهو يتفلسف بالمطرقة، وبرؤية أخرى: حزمة ديناميت يصعب الدخول في متاهته لتعدّد وجوهه. متطرّف وإشكالي وحائر بين خانة الفلسفة وخانة الأدب في تأرجحه بين الشعر والسيرة الذاتية. فيلسوف متقنّع بعلم الجمال والسيكيولوجيا. سيوصف بأنه «نبي النازية»، وبالمفكر اللاأخلاقي، فالمسألة بالنسبة إليه لا تتعلّق بالأسلحة والدبابات، بل بإفلاس القيم «نحن نحمل على أكتافنا قيماً متفسخة» يقول. سيعرّج في فلسفته على ما سمّاه «إرادة القوة»، اللحن الذي سيتردّد صداه في أغلب أعماله: «الأقوياء يقلبون القيم ويبدعونها. أما الضعفاء فيعيشون في ظل القيم المتفسخة». هكذا سيتّهمه جورج لوكاتش في كتابه «تحطيم العقل» بأنه رمز للبربرية الألمانية، فيما يرى مواطنه رودولف شتاينر أن الهدف النهائي في أعمال نيتشه يكمن في إظهار نموذج «الإنسان الأعلى» نافياً البعد الصوفي عن أفكاره في مراحلها المتعددة، تلك التي حاولت لو اندرياس سالومي إثباتها، فيلجأ إلى نبش أرشيف نيتشه كاملاً وقراءة سماته الشخصية أولاً بالاتكاء على ما كتبه عن نفسه «صديق الألغاز». هكذا عكف على تشريح سيرة هذا الكائن المتوحّد والمتأمل والغارق في الحس الغريزي. ذلك أن الغريزة لا تكيّف نفسها مع الطبيعة المتغيّرة للعقل، إذ كانت غريزته من الزهو إلى درجة أنها منعته من الانحناء أمام الآلهة، فقد «وُجدت هذه الشخصية في غير زمانها، مقارعة عصرها» في دوائر لا تنتهي، وتالياً لم ينجز فكراً فلسفياً محضاً، وإنما «عسل الروح في خلية نحل المعرفة».
شقَّ طريقه منفرداً، بنبذ الوصايا، وتمجيد الذات الفردية للنجاة


وبشكلٍ ما، فإن نيتشه يمحض ثقته لفكرة ما أو حكمٍ ما، فقط عندما تتجسّد فيهما غريزة الحياة التي تعزز سيطرة الأحرار. ويشير إلى أن المثاليين قطّعوا أوصال الوجود الإنساني إلى جسد وروح، معوّلين على الروح في المقام الأول، لكن نيتشه سيعلي من شأن الجسد: «الجسد روح كبيرة. إنه كثرة تحمل معنى، حرباً وسلاماً». وسيسخر من هؤلاء، بمن فيهم صديقه القديم ريتشارد فاغنر الذي أذعن في أعماله الموسيقية الأخيرة للمثل العليا التي تمجّد الزهد: «إنه والخواء أصبحا صنوين». هكذا شقَّ طريقه منفرداً، بنبذ الوصايا، وتمجيد الذات الفردية للنجاة من تعاليم معلمي الخنوع، أولئك الذين «يزحفون مثل أرتال القمل. ولو لم يمنعني القرف، لكنت سحقتهم». كما سيهجو فلسفة معلمه شوبنهاور المتناقضة جذرياً مع دوافعه العميقة نحو رؤاه الخاصة، وسينفر من الأفكار المنطقية، معتبراً أن سقراط قد دمّر الثقافة الإغريقية، وسيطلق على كانط صفة «مسخ المفهوم المشوّه».
خصوم بالجملة، مقابل غريزة متيقظة وحرّة تنهض على عنصر تدميري يتخلل أعماله كلها تقريباً. ففي «مولد التراجيديا»، يلقي بالثقافة الغربية بكل مراحلها جانباً على أنها طريق ضلال لا أكثر. يقول رودولف شتاينر: «نيتشه لا تؤرقه التناقضات على وقاحتها، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بتحطيم توجه فكري ما أو تدمير ظاهرة ثقافية». ويضيف: «كلما تعمق المرء في أفكار نيتشه واشتد قرباً منه، كلما سادت لديه القناعة بوجود عدد لا حصر له من القفزات التي لا يمكن تعليلها إلا إنطلاقاً من أساس سيكولوجي». وبناءً على ذلك، يصرّح شتاينر بأن هناك نواة مرضية في شخصية نيتشه أعطته دفعاً متواصلاً كي يشيّد مفاهيمه وتصوراته على بنيان فيزيولوجي، ثم يلتفت إلى مذكراته «هذا هو الإنسان» لرصد تحولاته المرضية: «على المرء أن يعرف جيداً أن سنوات فعاليتي المتدنية كانت توقفت من حيث توقفتُ أن أكون متشائماً. فغريزة إعادة بناء الذات حرمتني من فلسفة البؤس والخذلان». وستتكشف أناه ــ وفقاً لمذكراته ــ عن انقسام حاد إلى نصفين. يقول إن «من يهاجم زمنه يستطيع أن يهاجم ذاته. ماذا يستطيع أن يرى إن لم تكن ذاته؟ ومعنى ذلك أن المرء لا يستطيع شيئاً سوى أن يمجّد ذاته. فتدمير الذات، تأليهها واحتقارها، ذلك هو توجّهنا، حبّنا وكذلك كرهنا».
هكذا وقف نيتشه في تناقض تام مع أغلب معاصريه، وقد عصفت فيه بقوة هوجاء المشاعر والأفكار التي عصفت في عصره «وكان من شأن هذه العواصف أن جلبت له المعاناة والآلام».
المفارقة اليوم، أن يعود نيتشه من القرن التاسع عشر بكل ثقله وآثامه، إلى ساحة السوشال ميديا بشذرات وأقوال تخاطب ذائقة جيل القرن الحادي والعشرين، ولكن من دون تعمّق!