شقَّ طريقه منفرداً، بنبذ الوصايا، وتمجيد الذات الفردية للنجاة
وبشكلٍ ما، فإن نيتشه يمحض ثقته لفكرة ما أو حكمٍ ما، فقط عندما تتجسّد فيهما غريزة الحياة التي تعزز سيطرة الأحرار. ويشير إلى أن المثاليين قطّعوا أوصال الوجود الإنساني إلى جسد وروح، معوّلين على الروح في المقام الأول، لكن نيتشه سيعلي من شأن الجسد: «الجسد روح كبيرة. إنه كثرة تحمل معنى، حرباً وسلاماً». وسيسخر من هؤلاء، بمن فيهم صديقه القديم ريتشارد فاغنر الذي أذعن في أعماله الموسيقية الأخيرة للمثل العليا التي تمجّد الزهد: «إنه والخواء أصبحا صنوين». هكذا شقَّ طريقه منفرداً، بنبذ الوصايا، وتمجيد الذات الفردية للنجاة من تعاليم معلمي الخنوع، أولئك الذين «يزحفون مثل أرتال القمل. ولو لم يمنعني القرف، لكنت سحقتهم». كما سيهجو فلسفة معلمه شوبنهاور المتناقضة جذرياً مع دوافعه العميقة نحو رؤاه الخاصة، وسينفر من الأفكار المنطقية، معتبراً أن سقراط قد دمّر الثقافة الإغريقية، وسيطلق على كانط صفة «مسخ المفهوم المشوّه».
خصوم بالجملة، مقابل غريزة متيقظة وحرّة تنهض على عنصر تدميري يتخلل أعماله كلها تقريباً. ففي «مولد التراجيديا»، يلقي بالثقافة الغربية بكل مراحلها جانباً على أنها طريق ضلال لا أكثر. يقول رودولف شتاينر: «نيتشه لا تؤرقه التناقضات على وقاحتها، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بتحطيم توجه فكري ما أو تدمير ظاهرة ثقافية». ويضيف: «كلما تعمق المرء في أفكار نيتشه واشتد قرباً منه، كلما سادت لديه القناعة بوجود عدد لا حصر له من القفزات التي لا يمكن تعليلها إلا إنطلاقاً من أساس سيكولوجي». وبناءً على ذلك، يصرّح شتاينر بأن هناك نواة مرضية في شخصية نيتشه أعطته دفعاً متواصلاً كي يشيّد مفاهيمه وتصوراته على بنيان فيزيولوجي، ثم يلتفت إلى مذكراته «هذا هو الإنسان» لرصد تحولاته المرضية: «على المرء أن يعرف جيداً أن سنوات فعاليتي المتدنية كانت توقفت من حيث توقفتُ أن أكون متشائماً. فغريزة إعادة بناء الذات حرمتني من فلسفة البؤس والخذلان». وستتكشف أناه ــ وفقاً لمذكراته ــ عن انقسام حاد إلى نصفين. يقول إن «من يهاجم زمنه يستطيع أن يهاجم ذاته. ماذا يستطيع أن يرى إن لم تكن ذاته؟ ومعنى ذلك أن المرء لا يستطيع شيئاً سوى أن يمجّد ذاته. فتدمير الذات، تأليهها واحتقارها، ذلك هو توجّهنا، حبّنا وكذلك كرهنا».
هكذا وقف نيتشه في تناقض تام مع أغلب معاصريه، وقد عصفت فيه بقوة هوجاء المشاعر والأفكار التي عصفت في عصره «وكان من شأن هذه العواصف أن جلبت له المعاناة والآلام».
المفارقة اليوم، أن يعود نيتشه من القرن التاسع عشر بكل ثقله وآثامه، إلى ساحة السوشال ميديا بشذرات وأقوال تخاطب ذائقة جيل القرن الحادي والعشرين، ولكن من دون تعمّق!