حين يتأمّل المتابع الإصدارات الروائيّة السوريّة في السنوات القليلة الماضية. سيجد أنّ كلّها، أو الغالب الأعم منها، انتهى من الكتابة التوثيقيّة الآنية عن الانتفاضة المجهضة والحرب التي تلتها، وعاد بالزمن ثلاثة عقود إلى الثمانينيّات لأسباب مختلفة. فمن لم ينجح في تدوين الصراع الجديد، قرّر تدوين الصراع القديم: نُسقِط الأحداث الراهنة على الأحداث الماضية، نضع بعض الشخوص من خلفيّات طائفيّة مختلفة، وينتهي الأمر. فالفن وثيقة في نهاية المطاف، كما يدّعون. هذا ما يريده المخرج والمنتج والجمهور. ولكن ماذا عن الفن غير التوثيقي؟ ماذا عن الرواية كفنّ، لو سمح لنا الروائيّون والنقّاد بهذا السؤال الكافر؟ ما الذي يتبقّى للرواية السوريّة حين تغزوها الوثائقيّة الفجّة، ويسرق منها الشّعر تفاصيل حياتها اليوميّة العابرة، وتستعير منها القصّة تأمّلاتها في ما يحدث للبشر والحجر؟لعلّ الحل هو كتابة الرواية بأدوات القصة والشعر. ولعلّ هذه هي نقطة تميّز رواية نذير الزعبي «عبيل» (دار «ثقافة»). أدرك الزعبي تغيُّر سياقات الكتابة بتغيُّر السياقات السياسيّة، فانتقل إلى القصة أولاً ومن ثمّ الرواية، من دون التخلّي عن جوهر كتاباته التجريبيّة الأولى من ناحية التركيز على التفاصيل العابرة وكتابة نثرٍ ينهل من الشعر. اللافت في مسيرته الروائيّة هو جرأته في التجريب وعدم الركون إلى شكل واحد أو أسلوب واحد. والأهم هو أنّنا أمام كاتب يتقدّم بتطوّر تصاعديّ مع كل عمل. الحصيلة حتى الآن ثلاث روايات مختلفة لغةً وأسلوباً ورؤيةً ونضجاً.

كانت روايته الأولى «عشر ليالٍ وليلى» أقرب إلى الحكاية وتجميع التفاصيل ولكنّها تومئ بقدوم كاتب مختلف، ومن ثم كانت الرواية الثانية «يورو» حيث تجاوز عثراته الأولى واكتشف نقطة تفرّده في المزج بين الواقعي والفانتازي، لنكون أمام رواية متميّزة لم تلق ما تستحقّ من قراءة. ثم جاءت الرواية الثالثة الآن «عبيل» حيث فاجأ الزعبي نفسه وقرّاءه بالانتقال إلى قفزة تطوّر مدهشة. أمامنا رواية تخلّت عن ثوبها البسيط القديم في أن تكون مجرد حكاية، وإن كانت قد واصلت تجريبيّتها من خلال تطويع فانتازيّتها، أو بالأحرى من خلال خلق «فانتازيا واقعيّة»، تنهل من القصة التقاطاتها وتأمّلاتها الهادئة، من دون التخلّي عن الشذرات الشعريّة القديمة التي باتت الآن تفاصيل منمنمة في نسيج الرواية. أما الأهم فهو منحنا إحدى أجمل الشخصيّات الروائيّة السوريّة في هذين العقدين: عبيل الذي لا يشبهه أحد، العملاق الذي يضع قدماً في وحل حياتنا وقدماً في عالمه الحلميّ الشفيف، فيما رأسه هناك في الأعالي، حيث نبدو كلّنا هنا في الأسفل، كلّنا بلا استثناء، كائنات صغيرة متماثلة رتيبة مملة كالذباب.
كتابة الرواية بأدوات القصة والشعر تميّز رواية «عبيل»


نقرأ الرواية، ونعيد قراءتها، فلا نعلم تماماً ما إذا كان نذير الزعبي هو مَنْ كتب عبيل وروايته، أم أنّ عبيل هو الكاتب الفعليّ. لا نعني هنا الكليشيه المقيت بشأن الشخوص التي تتملّص من يد كاتبها، بل الشخصيّة التي تتطوّر بتطوّر حكايتها وتعيد خلق ذاتها وروايتها وكاتبها. لا يمكن أن تكتب عملاقاً فريداً برواية تقليديّة، وبذا كانت النتيجة رواية تروي حكايتين متوازيتين بأسلوبين مختلفين، تتخلّلهما رسائل كالأحلام يكتبها عبيل لـ «ملاكه الطينيّ». تلك الرسائل هي ابنة شذرات الزعبي الشعريّة القديمة، وقد أمست الآن لوحات قصصيّة جميلة تسند فصول الرواية، وتصونها من التشظّي والانفراط. تمتدّ الرواية بحكايتيها على مساحة خمس سنوات تقريباً، تولد فيها حكايا متوازية ومتقاطعة، تُرسَم فيها لوحات تنجب لوحات، تبدأ فيها مسيرة هشام الأسعد الصحافيّة وتنتهي، يواصل فيها الناس المهمّشون حياتهم الرتيبة في واقعٍ خانقٍ لا مفرّ منه إلا بالبوح وكؤوس الشاي، يبقى الفقير فقيراً والغنيّ غنياً، تبقى الشوارع السوريّة على إيقاعها الرتيب الذي تقطعه أحياناً سيّارات البيجو البيضاء الأمنيّة التي ستتحوّل إلى مرسيدس بعد عقد من انتهاء الرواية، يسعى من كانوا بسطاء ومساكين إلى التأقلم والتعايش في دنيا الوحوش التي يحاولون عبثاً اقتحامها من دون أن يتلوّثوا، تبزغ قصص الحب وتتلاشى، تكبر العائلة ويتفرّق أفرادها، يحدث كلّ هذا من خلال عدسة نذير الزعبي البارعة بإيقاعٍ بطيء يكسر القلب، ولا ينتأ من هذه اللوحة إلا عبيل.
يتماهى عبيل مع تفرّده ويحلم فنحلم معه، مثل شخصية بُتُمْ في مسرحيّة «حلم ليلة منتصف صيف». ولعلّه الشخص الوحيد الذي ولد، وبكى، وضحك، وعمل، وقرأ، وكتب، وبقي هو ذاته، حين ترك أحلامه تقود حياته، وبقي متمسّكاً بالحلم حتى بعدما انمسخ الحلم إلى حقيقة. فالأحلام كالأشجار لا تموت، بل تترك بذوراً لها في الرياح والمياه والهواء كي تشبّ شجرةً من جديد. تنتهي رواية «عبيل» ولا ندرك ما إذا كنّا نحن كما ندّعي ويدّعي واقعنا الخانق، أم نحن تفاصيل في أحلام عبيل، يرانا ويتأمّلنا ويُبقينا إن أعجبناه ويغيّرنا كيفما شاء. يفتح عبيل أعيننا على عالم شاسع لن ندركه إلا إذا أسلمنا أنفسنا له ونفضنا عنّا «واقعيّتنا»، وكذلك هي روايته وكذلك هو كاتبه الذي يعدنا بأعمال روائيّة قادمة نهرب منها وإليها.