ولدت الموجة الثالثة من الربيع الجزائري يوم 22 فبراير عام 2019، امتداداً للربيع الأمازيغي (أبريل 1980) ولانتفاضة أكتوبر 1988. لم تتخذ عنواناً، ولم تتبنّ لوناً ايديولوجياً، ولم تتخندق ضمن جهة من جهات البلاد، ولم تصطف إلى جانب أي من القوى السياسية التي عرفتها الجزائر منذ ميلاد تعدديتها الحزبية السياسية. أطلقت على هذه الموجة الثالثة من الانتفاضات الجزائرية تسميات سبق أن وصفت بها حركات وانتفاضات احتجاجية عرفتها شعوب عربية عديدة، خلال السنوات الأخيرة، مثل «حراك» و«ثورة» و«ربيع». الكثير من المراقبين سعوا في البداية إلى وضعها ضمن سياق ثورات «الربيع العربي»، لكن سرعان ما بدأ تشبيههم يتراجع، بسبب جانبها السلمي القوي والطاغي، وعدم وجود احتكاك - خلافاً لما كان متوقعاً - بين قوات الأمن والمتظاهرين، فضلاً عن سعة المشاركة الشعبية منذ أول لحظة. مشاركة لم تزدد إلا قوة وانتشاراً وتعاظماً في كامل التراب الجزائري، في الوسط والشرق والغرب والجنوب، ولم تكن محصورة في قوى اجتماعية دون أخرى، بل كانت عميقة وعريضة جنّدت كل طبقات المجتمع بكل أطيافه.أهم سمة ميّزت هذه الموجة الثالثة من الربيع الجزائري هي العفوية، وهي السمة التي جعلت بعض وسائل الإعلام والأوساط السياسية الموالية للنظام تشكك في من يقفون وراء مثل هذه الهبة الشعبية. لكن العفوية ليست بالضرورة مرادفاً للفوضى أو قناعاً لقوى تمتلك من الذكاء والقوة ما يجعلها توظف غضب الجماهير لمصلحتها. العفوية ليست بالضرورة شبهة، بل هي ضرورة تاريخية في لحظات التأزم والانسداد التي تعرفها المجتمعات، لأنها تحمل قوة التحرر كدينامية جديدة من خارج الأطر التقليدية التي باتت جزءاً من الأزمة الشاملة للنظام، تعبّر العفوية عن ذلك الحس الشعبي غير المشوّه، وعن تلك القوة العميقة التي تنبثق من بؤرة غير مرئية عندما تنسد كل البؤر، تحمل في طياتها كل تلك الشحن الكامنة التي ظلت تنتظر لحظتها للتجلي.
لقد عرفت عدة شعوب لحظاتها العفوية في ظل مرحلة قنوطها، وانكسار إراداتها وتراكم خيباتها وخفوت أصواتها. تجلت العفوية في روسيا القيصرية، في نهاية القرن التاسع عشر، عندما انطلقت حركة الشعبويين الروس، وانفجرت في خضم صعود الثورة الصناعية، عندما وجد عمال المصانع أنفسهم ملفوظين من مناصب شغلهم، واشتعل فتيلها أيضاً، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في مناطق شتى من الريف الجزائري، ومنها انتفاضة الفلاحين في الأوراس. ومع اندلاع حرب التحرير، كانت العفوية إحدى نقاط القوة في مسار الثورة الجزائرية، قبل تأطيرها بدمجها في بوتقة البيروقراطية التي صارت تسمي الثورة الجزائرية بـ«النظام».
تلك العفوية هي التي منحت الثورة الجزائرية ديناميتها وشموليتها وجاذبيتها للجماهير، وخاصة سكان الأرياف الذين شكلوا قاعدتها الاجتماعية ومحركها الذي وضعها ضمن التجارب الثورية النموذجية في القرن العشرين. لذا، فالعفوية لا تتناقض اليوم مع ضرورة التنظيم، بل تشكل طرفاً أساسياً في معادلة المطالبة بالتغيير، والتخلص الحاسم من نظام لم يعد مؤهلاً لأن يحكم، وأن يستمر في فرض إرادته على أغلبية لم تعد تجدي فيه قوة تمثيلية لتطلعاتها وطموحاتها وأحلامها..
إن العفوية عندما تتحول إلى قوة احتجاجية وثورية، تكون بمثابة لغة المستضعفين الذين فقدوا كل أمل في تحقيق التغيير بالوسائل الشرعية والمتاحة. فالحركة العفوية ليست وليدة العدم، بل هي نتيجة تراكم لنضالات وتجارب وإخفاقات وخيبات وجهود ومحاولات معزولة، منفردة، وفي في بعض الأحيان مبكرة وغير مكتملة النضج. تلتقي جميعها في آخر المطاف لتؤسّس للحظة غير محددة الزمان مسبقاً، لكن يكفي أن تتوافر الشرارة في الوقت المناسب لتلهب الحريق في أعماقها..
لقد كان الإصرار على الذهاب إلى عهدة خامسة للرئيس بوتفليقة من طرف عصبة النظام بمثابة قادح لشرارة هذه الموجة الثالثة من الربيع الجزائري، التي جاءت تحمل الطابع العفوي لكن غير الفوضوي، بل المنظم بشكل مختلف وجديد، تنظيم يتنافى مع البيروقراطية النضالية التي باتت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني رهينة لها.
لقد بدأت الدعوات في وسائط الاتصال الاجتماعي، لتحول المبادرات والنداءات الفردية إلى التبني الجماعي، وكانت الرغبة في الخروج الى الشارع متوفرة بصورة فائضة، لكنها كانت بحاجة إلى من يثيرها ويفتح أمامها إمكانية التحول من الرغبة إلى الفعل.
كانت المخاوف نابعة من حاجزين: أولاً، الخوف من أن تتحول المسيرات والاحتجاجات إلى أعمال عنف وشغب تزيد النظام قوة وعتواً واستكباراً، وثانياً أن تلتحق الجزائر بالتجارب الفاشلة في التغيير مثلما حدث في سوريا وليبيا ومصر واليمن.
تعاملت السلطة والموالاة مع نداءات الحراك بالاستهزاء والحطّ من شأنها تارة، والتخويف بالحالات الفاشلة في بعض دول الربيع تارة أخرى، ورفعت السلطة شعار الاستمرارية، أي استمرار النظام ورفض كل محاولة تدعو إلى القطيعة معه بشكل مطلق وحاسم، واختزلت الاستمرارية في الحفاظ على الاستقرار والأمن والسلم، وكل ما هو خارج أو معارض لخطاب العهدة الخامسة قُدّم على أساس دعوة إلى الفوضى والعودة بالجزائر إلى مأساتها الوطنية أو إلى دراما الدول العربية التي أخفقت في مرحلة التحول نحو الديموقراطية.
وقفت المعارضة التقليدية في حيرة من أمرها أمام إصرار السلطة على تنظيم انتخابات مزورة مسبقاً لصالح رئيس لم يره الجزائريون ولم يستمعوا إليه منذ خمس سنوات. أعلن البعض مشاركته في الانتخابات بعد التفاوض خلف الستار مع السلطة، للتموقع من جديد ضمن المشهد القادم الذي يديره النظام، ومن هؤلاء الذين قبل بعرض السلطة حركة «حمس» الاخوانية، بينما أرجأ البعض مواقفه مثل علي بن فليس، رئيس الحكومة الأسبق وصاحب حزب «طلائع الحريات»، وقاطع آخرون الانتخابات لكن من دون أي حماسة لمعارضتها مثل حزبي الأفافاس والأرسيدي.
لم يكن أحد في المعارضة التقليدية يتوقع أن ثمة قوة قادرة على منع الانتخابات، سوى تدخل يد القدر بموت الرئيس بوتفليقة. كان التغيير يبدو شبه مستحيل، وبدا الأمر للمعارضة التقليدية كأنه يجري مثلما خطط له النظام. لم تكن الدعوات التي انطلقت من وسائل الاتصال الاجتماعي تبدو لهم ولأصحاب القرار، على حد سواء، دعوات جادة أو ذات وزن على أرض الواقع.
الخلفية الأليمة لتجربة التسعينيات، لعبت دوراً كبيراً في التأسيس لهذه السلمية، فضلاً عن دروس تجارب الربيع العربي التي تحولت حروباً أهلية


ذلك التسليم بالأمر الواقع هو ما جعل العصبة الحاكمة تبدو مطمئنة لنجاح مخططها، ما يفسّر لماذا لم تبذل أي جهد في تغيير استراتيجيتها في فرض عهدة رئاسية أخرى على الجزائريين، إذ لجأت إلى نفس الأشخاص المنبوذين الذين قدموا الوعود الكاذبة للجزائريين في حملة رئاسيات 2014. فالشعور بالقوة والزهو دفع بالحكم إلى أن يسقط نهائياً من حساباته ورقة الشارع. ولم يهتم سوى بالرضا الذي كان ينتظره من القوى العظمى. كان يدرك جيداً ما يرضي أوروبا والولايات المتحدة الاميركية، وما تحبّذه القوى الغربية على مستوى الخطاب الذي يجب أن ينخرط – ولو شكلياً – في مشهد التناغم مع ايديولوجيا الحرية والاصلاحات، موفّراً في الوقت نفسه - وذلك هو الأهم للقوى الغربية - فرصاً كبيرةً للاستثمار في المجالات الاستراتيجية والحيوية.
لم ينتبه النظام إلى أن ثمة مؤشرات كانت تنبئ بأن مخططه للعهدة الخامسة لن يمر بالشكل الذي حدث إبان العهدة الرئاسية الرابعة. لم يرَ غضب الشارع قادماً. كل ما كان يتصوره، انبعاث أصوات معزولة لم يعد لها تأثير على وجهة الشارع، وبإمكانه قمعها بشدة حتى تكون عبرة للآخرين. لقد منحه قمعه لحراك الأطباء وإرضاخهم بالقوة إحساساً خاطئاً بالقدرة على إجهاض أي احتجاج أو أي مبادرة قد تقوم بها المعارضة التي لم تعرف كيف تحافظ على وحدتها، فانفرط عقدها، بينما حاول «الإخوان المسلمون» الاقتراب من السلطة، بتبنّي خريطة الطريق التي سرّبت لهم ليتبنّوها على أنها مبادرتهم.
لذا، فعنصر المفاجأة الذي أحدثته مسيرات 22 فبراير لم يربك النظام فحسب، بل أيضاً المعارضة والمراقبين الذين فتحوا أعينهم على ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الجزائر، تمثلت في خروج ضخم ومتنوع لكل فئات وشرائح وطبقات المجتمع الجزائري العميق ليطالبوا بإلغاء العهدة الخامسة لبوتفليقة وتنحّيه عن الحكم. كان التدفق في الشارع يوم الجمعة 22 فبراير من كل انحاء البلاد، وشمل مختلف المدن. اعتقد البعض أن التظاهرات ستكون تحت قيادة الاسلامويين، ما دامت تجري أيام الجمعة، التي ظلت دلالتها مرتبطة في مخيال الجزائريين بالحركات الاسلاموية في نهاية الثمانينيات، وكانت تجند الشارع وتحشد الجموع لرفع شعارات تنادي بتطبيق الدولة الاسلامية. كانت هذه المخاوف طاغية بشكل أخص على المناضلين المخضرمين، وهذا ما دفع حركة «مواطنة» العلمانية لأن تدعو إلى التظاهر يوم الأحد، في محاولة للنأي بنفسها عما يمكن أن يؤول اليه حراك الجمعة. وحتى السلطة راحت تربط تهديداتها بمخاطر استغلال حراك الجمعة من قبل قوى الاسلاموية السياسية. لكن هذا التوقع والتخوف لم يحدثا على الأرض، بل ما حدث كان مفاجأة للجميع، إذ تدفق إلى الشارع آلاف الشبان والشابات من مختلف الأعمار، فيما الصورة المنمطة عن الاسلاموي لم تظهر قط، وسيطر طابع التظاهر السلمي على كل شيء.
تحرر الفضاء العام من التشظوية والانشطارية التي كانت تطبع كل الحراكات الاحتجاجية الجزائرية طوال السنوات الثلاثين السابقة، وظهر الحراك الجديد موحداً في تنوعه الثقافي والاجتماعي والسياسي الشعبي، وطغى صوت الشباب، وانتفت الواحدية الجنسوية، إذ كانت الفتاة تقف إلى جانب الشاب، واضمحلت النظرة التقليدوية في ذلك الزخم الذي أسقط الحاجز الايديولوجي الذي بنته منذ نهاية الثمانينيات الاسلاموية السلفية والراديكالية.
اختفت الحزبية الضيقة ولم تتمكن من الاعلان عن نفسها في ذلك المشهد الشعبي الزاخر، الذي حمل شعارات سياسية بسيطة، ذات لغة شعبية جذرية، تدين الفساد والظلم الاجتماعي والاستبداد، في شكل اهازيج انبثقت من ثقافة جماعية، ملاعب كرة القدم، ما جعل الشعارات السياسية الكلاسيكية تبدو رثة، عارية من أي معنى مؤثر في تلك الجموع التي كانت ميزتها عقلانيتها المضادة تماماً في هدوئها ونعومة غضبها السلمي لتلك اللاعقلانية التي قادت الجموع المنساقة في التسعينيات وراء الخطاب الاسلاموي الراديكالي.
هذا الانقلاب في جمالية الاحتجاج، وضع السياسيين التقليديين والسلطة في وضع حرج، وأفقدهم كل قدرة على الفهم، وجرد الاعلام المهيمن من لغته وقدرته على التعاطي مع ظاهرة كانت جديدة في شكلها ومضمونها، بحيث لم يستيقظ من صدمته الا بعد دخول الحراك الشعبي غير المسبوق اسبوعه الثاني الذي ازداد ضخامة في عدده، وعمقاً في سلميته.
كانت جذرية الخطاب تجاه النظام خالية من كل ارتباط بالعنف، ومن كل جنوح نحو استفزاز رجال الأمن والدرك، إذ رفع المتظاهرون شعاراً سلمياً (الجيش، الشعب، خاوة، خاوة) أي إن الجيش والشعب إخوة. وكان هذا الشعار بمثابة البوابة لتدشين خطاب شعبي بسيط ومكثف يدعو الجيش وقوات الأمن إلى الوقوف بجانب مطالب الشعب بدل الوقوف في صف النظام. ولعبت الخلفية الأليمة للتجربة الدموية التي عاشها الجزائريون خلال الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، ولا تزال ماثلة بقوة في مخيالهم، دوراً كبيراً في التأسيس لهذه السلمية، فضلاً عن دروس وعِبر تجارب الربيع العربي التي تحولت إلى حروب أهلية. لم يتسرب أي ملل أو تهاون إلى هذه الثورة السلمية التي تقمّصتها روح غاندية جماعية طوال ستة أسابيع من الاحتجاج، وانتهت بتفجير تناقضات النظام الجزائري وكشف عيوبه الفاضحة، وصولاً إلى استقالة الرئيس بوتفليقة بعدما جثَم 20 سنة على سدة الحكم. وازدادت هذه السلمية قوة، وهي تتهيّأ لخوض الشوط الثاني من استكمال موجة ربيعها الثالثة، لإسدال الستار بالكامل على نظام فقد أهليته وانتهت صلاحيته، وحان الأوان ليحل محله نظام جديد يسميه الجزائريون عهد الجمهورية الثانية. هل يكسب الجزائريون رهانهم هذا، ليحققوا معجزة الانتقال من أسطورة الكفاح المسلح، الذي دفعوا خلاله مليون شهيد من أجل استقلالهم وتحررهم من الاستعمار، إلى جمالية ثورة سلمية ذات طابع إنساني تطيح الاستبداد من دون إراقة قطرة دم واحدة؟

* روائي وإعلامي، رئيس تحرير جريدة «الجزائر نيوز» ــ من مؤلفاته: «هوس» و«متاهات ليل الفتنة»