خروج الجزائريين يوم 22 فبراير 2019 إلى الشارع للتنديد بالعهدة الخامسة لم يأت من عدم، وقد جاء نتيجة تراكم كبير للكثير من الغضب الشعبي على المأزق الاجتماعي والاقتصادي الذي وجد فيه الشعب نفسه بعد عشرين سنة من البوتفليقية التي كرست لغة الخشب التي ميّزت النظام الجزائري منذ الاستقلال. جزائري اليوم ليس جزائري السبعينيات ولا حتى الثمانينيات. بقيت السلطة الحاكمة بالوجوه نفسها تكرس الخطابات الشعبوية ذاتها على مدى عقود، فبوتفليقة نفسه موجود في السلطة منذ 1962، وهذا بحدّ ذاته عامل مهم، فقد دقّ بوتفليقة المسمار الأخير في نعش هذا النظام من دون أن يدري.من جهة أخرى، يجب أن نعرف أنّ الملايين الذين خرجوا منذ 22 فبراير هم في مجملهم من الصوت الجزائري المغيّب في الانتخابات، وهم أيضاً عشرات الآلاف من عمال الادماج المهني الذين يحوزون شهادات جامعية بمرتبات مهينة لا تتعدى 50 دولاراً شهرياً، وهم أيضاً جيش الحيطيست (العاطلين من العمل) من الجامعيين الجدد (التوظيف مجمد في معظم قطاعات الوظيف العمومي منذ 2015)، وهم أيضاً أبناء المليون عامل الذين سرّحهم بوتفليقة من مناصب شغلهم في نهاية القرن العشرين. مليون عائلة جزائرية وأكثر وجدت نفسها بلا دخل فجأة. ومن الصدف أنّ الذي تسبب في ذلك، كان رئيساً للحكومة مع بداية الحراك، فتمّت التضحية به هو الاول. الذين خرجوا في 22 فبراير هم كذلك عشرات الآلاف من طلبة الجامعة الذين هم من دون أفق، وعمال الوظيف العمومي ذوي الترتيب المتدني في سلم الأجور، وهم كذلك المتقاعدون وبقايا الطبقة المتوسطة المهانة، والمهمشون وغيرهم من فئات الشعب التي أصبحت تعرف جيداً أن ثروة البلاد كلها تتحكم فيها قلة قليلة من المنتفعين الذين عادة لا يقيمون في البلاد. الحراك الشعبي الجزائري هو صرخة جيل جديد لا علاقة له بالعشرية الحمراء التي كانت دوماً البعبع الذي تخيف به السلطة المجتمع، ولا علاقة له بكل الخطابات الوطنية الخشبية التي لم تتجدد على مدى عقود. أغلب الذين احتجوا، فتحوا أعينهم في هذا الوجود على بوتفليقة وعلى صوره العملاقة في الشوارع ووجوده الدائم في التلفزيون كزعيم أوحد، بينما العالم كله أصبح في متناولهم وبـ«اللايف». الجزائري يتندّر على شكيب خليل وغول وبن يونس وجمال ولد عباس، ويعرف خباياهم وما يملكون وأسرار عائلاتهم. وهؤلاء يواصلون الكذب عليه في التلفزيون…
الحراك الجزائري بدا عنفوانياً تقوده شبيبة ذكية في ظل انسحاب النخب وخوفها، وغياب شبه كامل لمعارضة حقيقية تتبنى مطالب الجماهير، في ظل الرداءة السياسية التي كرستها أحزاب الموالاة بشخصياتها الكرتونية التي يمقتها الشعب، لكنها تصرّ على الظهور في التلفزيون دوماً تحت مسمى برنامج فخامة رئيس الجمهورية الذي هو أصلاً لا برنامج، فيما فخامة هذا الشخص/ الشبح غائب عن الكلام والحركة منذ 6 سنوات.
الحراك الجزائري هو ثورة حقيقية بمعطيات جديدة ونادرة الحدوث في التاريخ. أما تعامل قوى الأمن معها بتلك الطريقة الرائعة، فيعني تماماً أنه حتى أفراد الشرطة يريدون أن يهتفوا بنفس مطالب الجماهير، لأنهم هم أنفسهم مثلهم ينتظرون تلك الأجور الزهيدة آخر كل شهر، ويعيشون معهم على الكفاف. لقد كشف هذا الحراك للعالم زيف هاته السلطة وهشاشتها، وكشفها أيضاً لقيادة الجيش التي لم تجد بداً من الاصطفاف الى جانب الجماهير وتبنّي مطلبها الأساسي برحيل هذا النظام ومحاسبة العصابة.
الحراك السلمي الجزائري هو درس للعالم العربي خصوصاً، ولجماهيره المنتكسة بعد ربيع كاذب، ودرس للعالم بقواه الامبريالية التي كانت صديقة للبوتفليقية، من خلال الصفقات التي تمت تحت الطاولة، وتواطأت على نهب خيرات الشعب الجزائري.
الحراك الجزائري هو روح هذا الشعب التوّاق إلى الحرية والفرح والانعتاق.

* شاعر جزائري ــ من مؤلفاته: «صباحات طارئة» و«تركت رأسي أعلى الشجرة»