«سيسموغرافيا» أو علم قياس الزلازل وارتداداتها، هو المصطلح ذو الدلالة الذي استعاره الأكاديمي الفلسطيني منار مخّول عنواناً لكتابه الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». في «سيسموغرافيا الهويّات ــــ الانعكاسات الأدبية لتطور الهوية الفلسطينية في إسرائيل 1948-2010»، يسلّط المؤلف الضوء على ما وصفه بالتطور الهويّاتي لفلسطينيي الداخل خلال تلك الحقبات، شارحاً استخدامه مصطلح «التطور» لأنه «يتضمن معنى التحولات في الهوية كصيغة تاريخية ومتدرجة زمنياً مع الحفاظ على الطبقات المتعددة المُشكِّلة للهوية» (ص2). وللوصول إلى خلاصاته البحثية، يستعين مخول بقراءة 75 عملاً روائياً لأدباء فلسطينيين في أراضي الـ 48، «مما جعل هذه الدراسة واحدة من الدراسات الفردية الأكثر شمولية عن الروايات الفلسطينية في «إسرائيل»»، متوقفاً عند ثلاث مراحل خضعت لها الهوية الفلسطينية ما بين 1948 و2010. وفّرت دراسة الأدب هذه كما يقول «نظرة من الداخل إلى الخطابات الفلسطينية في إسرائيل مقابل الأبحاث السوسيولوجية أو السياسية التقليدية عن هذا المجتمع التي تكون إما مدفوعة أيديولوجياً (كما هي الحال مع التوجهات الحداثية) وإما بنيوية، أي أنها تركز على بنية وضع الفلسطينيين في إسرائيل من خلال عدسة النظم المؤسساتية والقانونية أو الإيديولوجية» (ص 201).

ثمة أهداف انطوى عليها جهد مخّول، فهو أجرى البحث في الروايات هذه كوثائق تاريخية. وعليه، فإن هدف تحليل الموضوعات الأدبية كان فهم الخطاب السياسي والهويّاتي، لا تحليل الأنواع الأدبية أو الفنية، ما أضفى البعد الهوياتي بالمعنى الوطني، والذات الفلسطينية على ثلاث حقبات زمنية راوحت بين 1948-1967 و1967-1987 و1987-2010 معترفاً بـ «أن كثيراً من الأبحاث عن حالة الفلسطينيين في إسرائيل كانت مفيدة جداً لفهم السياق الذي كُتبت فيه الروايات، لكنها لم توفر سوى القليل من القيمة التحليلية في ما يتعلق بالهوية الفلسطينية».
إن هذه الدراسة/ الكتاب تقدّم صورة فريدة للحياة الفلسطينية في «إسرائيل»: من التأقلم الأوّلي للحياة في ظل الحكم الإسرائيلي، إلى اعتماد خطاب التحديث وتداعيات ذلك التحديث على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، والاستجابة للتحديات التي يتعرض لها ذلك المجتمع نتيجة الحياة في «إسرائيل» والتأقلم معها (ص 204)، خاصة أنّ الفلسطينيين في «إسرائيل» أدركوا في أواخر الستينيات أن طبيعة الصهيونية الإقصائية لا يمكن أن تَستوعِب اندماجاً فلسطينياً في «إسرائيل» على قدم المساواة، فكانت ردات فعلهم تجاه الجانب الاجتماعي -الثقافي متنوعة. أما الخطاب المتعلق بالجانب السياسي للحياة الفلسطينية في «إسرائيل»، فيعكس خيبة أمل الفلسطينيين نتيجة الفشل في تحقيق الاندماج. لذلك منذ أواخر الثمانينيات في القرن الماضي وصاعداً، بدأ التمايز بين الجانبين السياسي والاجتماعي- والثقافي في الخطاب الفلسطيني بالتراجع والتلاشي، فتحول الجانب الاجتماعي- الثقافي إلى سياسي في روايات الحنين الفولكلورية فضلاً عن روايات الانتفاضة. ويؤكد مخول «أن المقاومة السياسية لمثل هذا المحو تبدأ من التمسك بالتاريخ والذاكرة والثقافة الفلسطينية» (ص 206).
يشتمل كتاب مخول على إهداء «لذكرى جدي فريد مخّول، لذكرى جدتي هيلانة مخّول» لما فيه من تثبيت للهوية وامتلاك للأرض والانتماء للجذور (عائلة مخّول من منطقة الجليل في فلسطين)، وكلمة شكر وتقدير، ومقدمة توقّف فيها أمام دور علم الاجتماع الإسرائيلي نفسه كجزء عضوي من المؤسسة الإسرائيلية والذي كان يفترض أن يؤدي إلى اندماجهم مع «المجتمع الإسرائيلي»، ولكن القصد منه فعلياً محو تاريخ الصراع بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، مع تسليط الضوء على «التخلف» الثقافي للفلسطينيين كسبب أساسي لعدم وجود أو تحقيق السلام (ص3)، إذ أطلق علماء الاجتماع الإسرائيليون على التحولات التي طالت الهوية الفلسطينية في الفترة 1948- 1967 مصطلح «الأسرلة». ويبين الكاتب أن علم الاجتماع الإسرائيلي لم يوفر فهماً كافياً للتحولات الداخلية للمجتمع الفلسطيني، فيعود مخّول ويؤكد «أن هذه الدراسة تأتي لتكون بمثابة خطوة حول ملء هذا الفراغ ذلك لأنها ستتعامل مع الهوية الفلسطينية من وجهة نظر فلسطينية» (ص5)، فكان التحليل الأدبي وسيلة ناجعة لتحقيق هذا الهدف، لأن الأدب في نظر العديد وأبرزهم إدوارد سعيد، يُمكّنُنا من الكشف عن جوانب في الهوية الوطنية والتطلعات التي يصعب الوصول إليها من خلال أساليب أو مناهج بحثية أخرى (ص7).
كان للانتفاضة الأولى تأثير كبير في أهل الأرض المحتلة سنة 1967


يتضمن الكتاب أيضاً ثلاثة فصول تعكس مراحل أساسية في حياة فلسطينيي الداخل (1848-1967 ثم 1967- 1987 ثم 1987-2010)، وتُوثّق الروايات الفلسطينية في الفترة الأولى بعد أحداث النكبة، إضافة إلى بعض جوانب الحياة الفلسطينية خلال الحكم العسكري، في حين تمتد الفترة الثانية من 1967 حتى اندلاع الانتفاضة الأولى 1987. مرحلة شهدت تحولات سياسية واجتماعية كبرى في المجتمع الفلسطيني. أما الفترة ما بعد 1987، فتشتمل على سنوات الانتفاضة الأولى وعملية السلام اللاحقة ثم فشلها واندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000. وتتميّز هذه الفترة سياسياً في حياة فلسطينيي الداخل. إذ بدأوا خلالها النظر إلى مستقبلهم في ضوء عملية السلام التي تستثنيهم من حلّ القضية الفلسطينية، لكن كان للانتفاضة الأولى تأثير كبير في «إسرائيل» من حيث تفاعلهم العاطفي مع الفلسطينيين في الأرض المحتلة سنة 1967 ومقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي. ومع أن الفلسطينيين لم يشاركوا في الانتفاضة الأولى، إلا أنّهم خضعوا لتحُّول عميق في هويتهم وبدأوا يرتبطون بالنضال الوطني الفلسطيني (ص 13)، وهو ما نلمسه من وقفات سياسية لأبناء فلسطين الـ 48 في السنوات الماضية وقد حملت عناوين الانتماء لهذه الهوية وقضيتها... مَن ينسى وقفة هؤلاء وافتخار بعضهم بيوميات حرب تموز 2006 وصمود المقاومة الأسطوري في لبنان بوجه الجيش الذي كان لا يقهر؟
يغتني الكتاب بنشر قوائم لعناوين الروايات الفلسطينية في «إسرائيل» (قيد بحث مخّول) وأسماء كاتبيها وسنوات صدورها ودور النشر التي صدرت عنها، فأعطى للصدقية بعداً جمالياً وتأريخياً تحتاج له الأجيال الفلسطينية والعربية وكل قارئ ومتابع.
أما الفصل الثاني الذي حمل عنوان «ما بعد التحديث: 1967-1987»، فيناقش الخصائص الرئيسة لخطاب التحديث الفلسطيني في «إسرائيل» خلال العقدين الأولين بعد النكبة. إذ استهدف أنصار التحديث الفلسطيني ــ كما ظهر في الروايات التي تناولها مخّول ـ «إصلاح مجتمعهم وتعزيز التعايش بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. ولتحقيق هذين الهدفين، قلّل التحديثيون الفلسطينيون من أهمية السياق السياسي العدائي، ومن التنافي المتأصل بين الفلسطينيين والصهيونية».
وفي الفصل الثالث «الروايات الفلسطينية 1987-2010: الفلسطينيون يجمعهم الاغتراب»، تبرز كيفية تطور الهوية الفلسطينية في فترة ما بعد 1987 التي شهدت تحولات سياسية حادة، ومبادرة هؤلاء إلى إصدار أربع وثائق رؤية مستقبلية في الأعوام التي أعقبت الانتفاضة الثانية سعت إلى تحديد العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهو ما أظهرها كعلامة على طريق ظهور خطاب فلسطيني جماعي داخل «إسرائيل». ومع أن الروايات كُتبت في معظمها بصيغة المتكلم، «إلا أننا رأينا أنها تشير إلى التجربة الجماعية، إذ يعكس استخدام «جماعية المتكلم» في الروايات الفلسطينية أفكار الوعي الذاتي الجماعي بشأن مستقبلهم». أوليس في تكريس يهودية الكيان الإسرائيلي التأكيد الفعلي لإقصائية المشروع الصهيوني لأبناء الأرض؟ وما يتطلبه ذلك من أبناء الأرض لإقصاء هذا المشروع الإقصائي!

* صحافية لبنانية