لا يمكن استعادة المراجع الموسوعية المتعلّقة بتوثيق النهضة العربية في بواكير القرن الفائت، من دون الالتفات إلى تحييدها الممنهج لكثير من الأسماء النسوية الريادية التي أسهمت في إثراء تلك الحقبة وتعرية تكلّساتها الفكرية. قلة من الكاتبات المشرقيات أفلحت في أن تحتلّ مكاناً في هذا المخاض الثقافي الطويل، في ظلّ تعسر الظروف الاجتماعية المحيطة وجنوحها نحو الطابع الذكوري. ولما كانت روز أنطون (1890ـــــ 1980) واحدةً من أبرز العلامات الصحافية والثقافية التي وسمت الحراك التنويري، فإنّها تكاد تكون الشاهد الأمثل على سياسة التهميش التي مورست بحقّ الذاكرة النسوية المعاصرة، لِما كابدته منجزاتها من إغفال وتغييب، على عكس ما حدث لمجايلاتها العربيات كمي زيادة وزينب فواز ونجلاء أبي اللمع وهند نوفل وسواهن.
المحطات الأولى
لم تكن الظاهرة الفكرية الاستثنائية التي دأبت روز أنطون على ترسيخها طيلة عقود من الاجتهادات والإسهامات الدورية بمثابة واقعة عبثيّة، على قدر ما تمظهرت كناتج طبيعي للمناخات الثقافية والفكرية التي تحدر منها وعيها التقدمي. ابنة طرابلس نشأت في كنف أسرة تنتمي للعائلات البورجوازية التقليدية، لأبٍ تاجرٍ وأشقاء أربعة سيغدو واحدهم «أباً للنهضة الفكرية الحديثة في المشرق العربي»، كما جاء وصف الكاتب والروائي فرح أنطون (1874_1922) على لسان الأديب اللبناني الراحل مارون عبود. أبت روز أنطون إلا أن تخطّ مشروعها النهضويّ والنسويّ الفرديّ، من دون نكران التأثيرات الواضحة التي أنجبها احتكاكها بشقيقها فرح، كما بالصحافي والشاعر الطليعي نقولا حداد (1878ــــ 1954) الذي ستختاره شريكاً لها.

من هنا، فإنّ أي تداولٍ لمنجزات أنطون سوف يتطلّب تنقيباً معمّقاً في طبيعة التقاطعات والوشائج التي كانت تصلها بعملاقيْ الفكر فرح ونقولا، خصوصاً أن محاولاتها الصحافية المبكرة كانت قد أينعت بين صفحات مجلة «الجامعة العثمانية» التي أصدرها أخوها في الاسكندرية عام 1899، قبل أن يعيد تسميتها بـ «الجامعة» إثر تبدّل مواقفه السياسية إزاء السلطنة في ذلك الزمن. على غرار نظرائه من رواد النهضة كشبلي الشميل وقاسم أمين، تيقّن المفكر الشاب باكراً من ضرورة إشراك المرأة كعنصر حيوي وفاعل في العملية الإصلاحية التي لطالما رامتها تطلّعاته التحديثية، فما كان منه سوى إيكال إدارة دوريته الجديدة «السيدات والبنات» (1903_1906) إلى شقيقته روز، عقب استقالتها من مركزها الإداري في أحد الصروح المدرسية التابعة للجالية الإرسالية الأميركية في مصر. هكذا، وفي غمار طوفان هادر من الإصدارات والمنتجات الصحافية التي توخت استقطاب الفئات النسائية من الجمهور المصري كـ «المرأة» (1901) لصاحبتها أنيسة عطاالله و«الزهرة» (1902) لمريم سعد، استطاعت المطبوعة الشهرية التي عادت باسم «السيدات» ـ مع حلول عامها الثاني ــ أن تكرّس نفسها كمنصّة ثقافية وفكرية وتفاعلية تصدت بدأبٍ لمختلف الموضوعات الاجتماعية والتربوية والصحية. فإذا بها تحظى بانتشار مقبول بين أوساط القراء والقارئات من أبناء العائلات المحظية والطبقة الوسطى. بيد أن المجلة كانت قد تبنّت مساراً إرشادياً وإصلاحياً انطلاقاً من نهجها التوجيهي القائم على استنهاض الهمم النسائية وتنويرها في سبيل تقويم كامل الهيئة الاجتماعية، إلا أنها تورعت عن معالجة كثير من القضايا الحساسة على نحو مباشر كالحجاب واختلاط الجنسين والمهر وعمل المرأة وتعدد الزوجات وسواها، تلافياً لأيّ تناحر واحتكاك مع الحاضن المصري الإسلامي المحافظ. ما إن وضعت «السيدات» عددها الأخير بعد إتمامها عامها السادس، حتى عاجلت مؤسِّستها إلى الالتحاق بزوجها وأخيها في الولايات المتحدة للمساهمة في إصدار وتحرير مجلة «الجامعة» من قلب المهجر النيويوركي. تجربة ما لبثت أن بلغت أفولها بعدما حسم الثلاثة قرارهم بالعودة إلى القاهرة خلال النصف الأول من عام 1909، تزامناً مع إطلاق الدستور العثماني وبروز بوادر انفراج سياسي في المنطقة. من بعدها، خيّم الجمود المهني على سيرورة روز الإبداعية، فكان لقرائها أن ينتظروا 15 عاماً ونيف قبل أن تعود واعظتهم في مغامرةٍ صحافية أكثر تنوعاً وغزارة.

الولادة الفكرية الثانية
خمد فتيل الحرب العالمية الأولى، وتمخضت عنها خريطة سياسية واجتماعية جديدة أسهمت بدورها في إحداث تحولات صاخبة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وكان لثورة 1919 في مصر وتداعياتها أصداؤها على مجمل الأوساط القيادية والنخبوية في مصر، بمن فيها من كتاب ومفكرين من الخلفيات والولاءات العقائدية كافة. لم يمرّ وقت طويل قبل أن يستعيد الترويكا الألمعيّ المكون من روز وشقيقها وقرينها دوره التأثيري على الساحة الثقافية العربية، بعدما آثرت الكاتبة إعادة إحياء مجلتها المُجهضة مجدداً عام 1921، عبر إصدار نسخة محدثة وعصرية اكتسبت اسم «السيدات والرجال»، بالتعاون مع زوجها نقولا الذي تولّى تحرير القسم الرجالي.
ندّدت بالاستعمار الثقافي، داعيةً إلى الانصهار الوطني من أجل التحرر من السطوة الاستعمارية


وفيما حالت بعض العثرات اللوجستية دون تحقيق التحسينات الخارجية المرجوة في شكل المجلة وهيكلها الخارجيّ، إلا أن سياستها التحريرية كانت قد شهدت نقلة نوعية لافتة أدت إلى تكثيف المباحث العلمية والاجتماعية والمقتطفات الروائية القصيرة على حساب تلك المتصلة بشؤون التربية والتعليم والأزياء والمطبخ. يمكن عزو هذه التغيرات الحاسمة إلى ضفيرة من العوامل والظروف المفصلية التي أرستها معالم الانفتاح الليبرالي عقب الاستقلال المصري، علاوة على اكتساب صاحبة المطبوعة الخبرات والوعي الوطني والقراءات التحليلية السباقة.
إلى جانب انشغالها في تفكيك الموروثات الاجتماعية التي تعيق تمكين المرأة وتطوير المجتمع على حدّ سواء، عكفت الصحافية النهضوية على التنديد مراراً بمظاهر الاستعمار الثقافي التي طالت أبسط الممارسات اليومية وسحلت خصوصية الشرق الثقافية، داعيةً إلى الانصهار الوطني في سبيل التحرر من براثن السطوة الاستعمارية. حتى إنّها أوردت في إحدى مقالاتها ما يمكن اقتضابه بـ«سهل علينا أن نجلي كل احتلال سياسي إذا حررنا أنفسنا من التقاليد العمياء» («عصر التجديد»/ تشرين الثاني - نوفمبر 1927). ويُحسب لروز أنطون تطويعها الحكيم لتقنيات السرد والتشويق في طرح الملفات الآنية والمستعجلة المتعلقة بالشأن النسوي والاجتماعي والسياسي، وابتعادها عن الإطناب والمساحيق اللغوية لصالح الاستشهادات والأمثال الخلاقة المستقاة من إسهامات أدباء ومفكرين عالميين من أمثال كويفر وكنزل ورسكن وأمرسون ومونتسكيو وهلفت وبيكون وغيرهم، كما من المشاهدات الحياتية اليومية، ما تبدى واضحاً في مجمل المواد واللقى الكتابية التي احتكم إليها أحمد أصفهاني في دراسته لسيرتها في كتابه الجديد «روز أنطون: كاتبة نهضوية مجهولة» (إعداد أحمد أصفهاني، إشراف هدى
وماريا فؤاد حداد، 2018)
مذ ولوجها عالم الصحافة، أدركت أنطون أن أي مساس علني بالمنظومة الثقافية والدينية وتابوهاتها في مجتمع لا يزال قيد النهوض، لن يؤول إلا إلى غير مقصده. غير أن ذلك لم يحل دون إدلاء الكاتبة الثورية بمواقف جريئة إزاء إشكاليات جدلية عديدة من خلال نافذة «حديث الصالونات» التي سخّرتها كمنبر يهدف إلى محاكاة المساجلات الفكرية الجارية داخل ردهات المجالس النسائية، ونقل الهواجس والأفكار التنويرية على لسان النسوة المتحاورات، إضافة إلى بوابة «أسئلة القراء» التي استحالت ملاذاً آخر لبثّ آراء المحرِرة الحقيقية، بعدما كان غرضها الأساسي مقتصراً على مد جسور التواصل مع القراء والقارئات. ولا بد من أن هذه الخطوة قد أمدت الكاتبة بالعون اللازم للخوض في العديد من المسائل الشائكة من دون التورط في أي مسؤولية مباشرة، كقضية تعلم المرأة وعملها ومشاركتها في الشأن العام «في وسع السيدات أن يعملن لأجل الاستقلال إذا دعين للعمل وإذا شجعن عليه وإذا قبلت مساعيهن فيه، وحينئذ نرى أن قوة الجهاد الوطني قد تضاعفت وأصبحت الأمة أقوى بكثير من قبل» («المرأة والاستقلال: واجبات السيدة الوطنية» ـــ أيار/ مايو 1928)، وكذلك إشكالية اجتماع الجنسين التي وجدتها أنطون «مهذباً لهما» («السيدات والمعرض المصريّ» ــ آذار/ مارس 1926)، عدا تفنيدها لبعض العادات الشرقية كـ «الذميمة» القائمة على الإسراف في اللباس والتبرج، والانكفاء عن المصنوعات الوطنية لصالح تلك الأجنبية التي «استحوذت على ثروات البلاد» («مشاهدات وحوادث في سوريا» ـــ حزيران/ يونيو 1924)، كما اندفاع المواطنين المستميت إلى تزلف الحكام، توازياً مع نضوب روح الوطنية بين صفوفهم وتفشي البطالة وكساد الصناعة. بالروحية نفسها، اصطبغت مجمل عطاءات أنطون وإسهاماتها بسعة الاطلاع والاستقلالية الفكرية. وإذ قد يجرؤ بعضهم على شجب منهجيتها التلقينية وزجها حصراً ضمن مرادفات النسوية النخبوية من دون إحاطة امتدادها التاريخي بالمعرفة اللازمة، إلا إن إغفال عمق البصمة التي أرفدتها على صعود النضال النسوي العربي هو ضرب من التحامل والإنكار.