تحل رواية الكاتب المصري عمر طاهر «كُحل وحَبَّهان» (دار الكرمة) المشكلة التسويقية التي تواجهها الكتب الأدبية مقابل كتب الطبخ. إنّها رواية عن المطبخ المصري، عن جانب من الحياة المصرية الهادئة. لا يصنع موضوع أي رواية فرادتها، وإنّما تبنى فرادة النص الأدبي عبر اختبارات عديدة يخضع فيها الموضوع لشروط الأدب وأدواتهِ، التي تبني من العالم الحقيقي عالماً آخر لغوياً، يحمل النزعات الفكرية أو الأهواء نفسها التي نعرفها في العالم الواقعي. نجد صاحب كتاب «صانعية مصر» في تجربته الروائية الأولى، مسهباً في السمة التي أراد عبرها قراءة حياة البشر، حداً يمكن معه قراءة كلمة الناشر عن الرواية بصورة معكوسة. إذ لا تكشف «كُحل وحَبَّهان» حياة رجل عادي عبر استخدام الطعام والرائحة، وإنّما تكشف الرواية عن متعة الطعام والرائحة عبر حياة الرجل العادي. يبرر هذا القول الإسهاب المضني في وصف أطباق عديدة، وفي محاكاة حياة عبد الله كما لو أنّها وجبة لحم مسفوحة على النار بمقاربات بسيطة وأحكام قيمة خاصة. على الرغم من هذا الإخفاق في إدراك ما يجعل نصاً سردياً ما، نصاً روائياً، إلا أنّ الكاتب يتحلّى بمهارة في السرد، صنعتها مهارة في الثرثرة. يذهب نقاد إلى اعتبار الرواية «فن الثرثرة». ضمن هذا القول، يبدو عمر طاهر روائياً محكماً قادماً من فضاءات غنية، إنّه يعرف الحياة المصرية ويجيد التقاط حسّ عام وتطويعه في حياة أبطالهِ، ما جعل من بطله عبد الله شخصية مألوفة وعفوية، خارجة من حياة يومية لا تعرف الزخرفة ولا تتنكر للبراءة. يصف عبد الله نفسه بكلمتين «أحب الطعام». وبهذا الحيز فقط يمضي الكاتب بالسرد إلى غاياتهِ.

ينتقل الراوي بين زمانين، واحد ثابت هو عام 1988 ويمتد على خمسة أيام، وآخر متغير يعكس تغيرات شهدتها حياة عبد الله. في الأيام الخمسة التي تفصل عبد الله عن حفل لمحمد منير يترقب انتهاءها بموافقة والدهِ على حضور الحفل مع خالهِ، يصور الكاتب حياة الفتى الخجول الذي لا يجيد فتح المواضيع مع أحد. ولاحقاً صار يسأل عن وجبة الغداء في منزل من يتحدث إليه. لعبته هي التمهل أمام المطابخ في البناية التي يسكنها، والتمهل أمام منزل جارتهِ سحر، فيما لا يخبئ فرحته بالتلفزيون الملون وشغفه بالأغنيات التي يدونها على دفتر ملاحظات من أجل سحر، التي يعاني من الوصول إليها بسبب المجتمع الذي يعيش فيه، وفي داخلهِ يُعرِّف فتنتها بأنّها جعلته يحب نفسهُ، في الوقت الذي كان يجرب فيه متعاً كثيرة قوامها الأكل؛ متعة النظر إلى الطعام ومتعة الشم ومتعة المضع ومتعة البلع. إلى جانب هذه المتع، يفرد الراوي لمطربي مصر المشهورين روائح طعام خاصة بهم، إضافة إلى روائح الكتب القديمة والنقود والطلاء الجديد التي أرادها اكتشافات وفتوحات سردية! حتى إنّ التعبير عن الحب في الرواية يأخذ مساراً يخرج من صلب الموضوع: إذا ما أراد والد عبد الله التعبير لوالدتهِ عن حبه لها، فإنّه يقتطع أشهى عنصر في طبقه ويضعه لها. وعلى نحو مشابه في عام 2008، يقترب عبد الله عاطفياً من صافية التي أرسلت له مخبوزات بالقرفة. لقد أحبّها لأنّها ساعدته على التخلص من فقدان شهية أصابه لكثرة المطابخ التي جربها. ينحصر الذكاء العاطفي في الوصول إلى المعدة، وعبر المعدة إلى قلب الرجل. إنّ الرواية تطبيق سردي لهذه المقولة، من دون الالتفات إلى ما عداها. لا يخفي طاهر فلسفة الطعام التي تحرك الخيوط السردية كافة، إذ إنّ ما يجعل طعام الأم مميزاً هو الأشياء التي تُستدعى معهُ؛ الزمان والمكان والرائحة. يأخذ التعبير عن الفرح أو الحزن كذلك هيئة أطباق، الأحلام العاطفية تنتهي بالتهام أحدٍ لآخر.
ينهض النص على شرط واحدٍ هو المتعة

ينتقل الرواي إلى عام 2017 وقد تشكلت حياة صافية وعبد الله على تجارب رومانسية هي في الحقيقة؛ الطعام الذي يتذوقانه، بدءاً من عرسهما الذي جعلاه مآدب طعام لمدة شهر كامل، حيث تميز صافية غواية المطبخ، تطبخ كلّ شيء بالحب. يصفها الراوي في المطبخ كما لو أنّها في مسرح، وقد ملأت حياتها وزوجها بالنكهات والإثارة. وفي ذاكرة عبد الله تشع حفلة محمد منير التي سمح له والده بمشاهدتها بعد مغامرة أفقدته سحر. يبني طاهر روايته وفق تتالٍ زمني، جعل من النص سلساً، ومقسّماً على نحو تتلاقى فيهِ الطفولة التي ترى في الطعام شغفاً، مع رجولة تعيد ولادة الأب لديه، وتعيد تفسير الماضي في منزل أُسس على شهوات الطعام ومفاتنه.
ينهض النص على شرط واحدٍ هو المتعة، لكن الرواية التي أرادها كاتبها نصاً معاصراً، هي نوعٌ غير مألوف من فانتازيا الطعام، تغيب في غمرتهِ المشاعر والعواطف والأقدار. في «كُحل وحَبَّهان» حتى الحصول على فنجان قهوة جيد، هو شأن قدري مثله مثل الحب. ينهي قارئ هذا النص ويمضي إلى المطبخ يتأمل أدراجه، عوضاً عن الخروج إلى الشرفة أو الشارع وتأمل الحياة التي قوامها الناس لا الأطعمة.