في كتابه الشعري الجديد «سنتذكر ونندم» (دار مقاربات ـ المغرب)، هناك «طوفانٌ كاملٌ من اللغة يتدحرجُ من علٍ». الجملة هنا نستعيرها من نص «في معنى الفراشة» الذي يستهل به الشاعر كتابه. إذ تتدفق التركيبات اللغوية والصور الشعرية بالصبيب ذاته الذي تتدفق به مشاعر الشاعر، هذه المشاعر التي يتصدرها القلق واللاطمأنينة والشك والإحساس بعدم الجدوى واليأس والعدمية أحياناً، والخوف مما سيؤول إليه العالم.قلق الشاعر ليس ذاتياً، إنه قلق لأجل الجميع: «أشعر بالغضب/ ليس لأن مزاجي سيء قليلاً/ أيها الصباحْ./ فقط/ الأحجار التي ملأتْ الساقية/ لم تتركِ الحلمَ يعبر دون ندوب». ماذا يفعل الشاعر حيال أهوال العالم وأمواجه العاتية؟ إنه يواجه كل هذه القسوة برقّته. يقول الشاعر الفلسطيني محفوظ مصيص في إحدى قصائده مشيراً إلى مسألة مواجهة العالم «سلاحي الوحيد القبلة». وجمال الموساوي يقول في كتابه الشعري الجديد: «ولستُ، مهما حاولت،/ سوى فراشة/ أفردُ جناحين للهشاشةِ،/ وهناكَ ما ينسخُ الأفكار، وما يملي/ على الكائن معنى أن يكونَ؛/ أن يكونَ/ فراشة هشة ينهشها الزوالُ».

هذا الضعف يعترف به الشاعر في مواقع كثيرة، بلغة صريحة وبتقشّف بلاغي «أنا كائنٌ بعاطفة هشة». إن ما يؤرق الشاعر حقيقةً هو تعقّب «الكمال الذي لا يدرَك»، هو تحسّس تلك الفجوة الهائلة بين عالم واقعي وعالم آخر محلوم به. فتلك الخريطة الطفولية الحالمة التي يبسطها الشاعر أمامه لا توصل إلى شيء. وبالتالي، فكل إحساس بالعدمية واليأس يغدو له في الكتابة ما يبرره. في نص «مزاج سيء»، يتولد لدى الشاعر إحساس بأن الأرض ضيقة أكثر مما يليق بها، وأنه إذا كان هناك من متّسع حقيقي، فهو يوجد في اللغة. لا علاقة لتصور كهذا بأي شرط جغرافي، فالحياة الجديدة بضغطها وتوترها وتفاعلاتها اللامنتهية هي ما يمنح هذا الشعور بالضيق. إن إنساناً يدمن على قراءة الجرائد وتصفح المواقع ومتابعة نشرات الأخبار، في العالم العربي تحديداً، لا يمكن أن يخرج من هذه المعتركات اليومية سليماً كما دخل إليها، ولا يمكنه على الإطلاق أن يحافظ على صفائه وهدوئه مهما نوّع السبل إلى ذلك. ثمة ضغط خارجي له تبعاته الدائمة والمتحولة على أعصاب الكتابة.
هناك روح من الفجائعية تخيم على صفحات الكتاب. الحزن عند جمال الموساوي ليس للتوظيف الجمالي، واستدرار تعاطف القرّاء. إنه دخان نار أضرمها الواقع، فالشاعر شاهد بالضرورة على عصره، على المشرق فيه، وعلى المظلم أيضاً. أصدر الموساوي خمسة أعمال شعرية، ومن ديوان إلى آخر، نلاحظ تراجع الحب والفرح في قصائد الشاعر، وذلك له مسوغاته، فربّما صوت العنف صار في عصرنا أعلى من صوت الحب.
هذا الدفق الشعوري الذي يحسّه القارئ عبر نصوص الكتاب سيكتشف منبعه في النص الأخير «تمثال في ملتقى شارعين» الذي يحتفي بفرناندو بيسوا صاحب «اللاطمأنينة» والرمز الشعري الأكبر للقلق والتردد والتمزق الوجودي والانصراف إلى العالم الداخلي. يأتي هذا الاحتفاء على شكل نوستالجيا واستعادات وتماهٍ مع شخصية صاحب «راعي القطيع» وأحلامه، وتركيز على فكرة تخليد الشاعر نكايةً بجملة بيسوا «لستُ ذا شأن» التي يحولها الموساوي إلى جملة استشرافية مضادة تتكرر في نصه الأخير على النحو التالي: «سأكون ذا شأن».
يضم الكتاب سبعة وأربعين نصاً قصيراً يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء يلاحظ القارئ التحول النفسي فيها من جزء إلى آخر، من الشك والتردد إلى المهادنة إلى تجسير الرؤى وبسطها أمام القارئ في صور شعرية بارقة وأخّاذة. ويبرع الموساوي في كتابة «الأبيغرامات» أي تلك النصوص الشذرية المكثفة التي وصفها الشاعر الإنكليزي صموئيل كولردج بقوله: «إنها كيان مكتمل وصغير، جسدُه الإيجاز، وروحُه المفارقة».
مشاعر يتصدرها القلق واللاطمأنينة والشك والإحساس باللا جدوى والعدمية


قد يتساءل القارئ في النهاية عمّا الذي سنتذكره مع جمال الموساوي ونندم، وسيجد الجواب في نص «لامبالاة»، حيث يستعيد بعض المشاهد التي كانت تشكل مبعث خوف لدينا في طفولتنا وشبابنا الأول، ومع سنوات الرشد والتعقل نكتشف أننا ضيعنا فرصة أن نعيشها، ومن ثمة يتولد الندم المتأخر. غير أن القصيدة تدعو في عمقها إلى التفكير الذاتي في الحياة بغض الطرف ما أمكن عن التمثلات الناتجة عن أسلوب عيش جماعي له منابع دينية واجتماعية تشكل، في الغالب، أسواراً وحصوناً تحدّ حركة الفرد وتحدد مجال نشاطه.
إن مداومة تأمل الشاعر للعالم لا تأتي في الغالب بأي شكل من أشكال السعادة والتماهي معه، إنها تعمّق عزلته وتجذر هذا الإحساس الدائم باللاطمأنينة والتوتر. كان نيتشه يقول: «كي تكون وحيداً، عليك أن تكون إما إلهاً أو فيلسوفاً». لقد فاته عن سهو أو عن غير سهو أن يقول: «كي تكون وحيداً عليك فقط أن تكون شاعراً».
يشبه الموساوي نفسه بحمّال غير معني بما يقع في العالم، في صورة سيزيفية آهلة باللاجدوى والإعلاء من شأن الزهد والرغبة في الانفصال: «أريد أن أقول لك/ إنني مثل حمالٍ/ السنوات ُعلى كتفي صندوق من الذكريات/ الأيامُ أشجار يخلفها قطارٌ وراءهُ/ القلبُ خرقةُ متصوفٍ مصلوبٍ في ساحةٍ/ إنني مثلَ حمالٍ/ لا شأن لي بما يحدث».
في «سنتذكر ونندم»، جرد للتحولات النفسية للشاعر ومعها تحولات العالم وأهواله ومصائر المقيمين فيه. وأمام كل هذه الأهوال والتحولات يبقى الشعر هو الملاذ. إنه البخّاخ الذي يقاوم «ربواً في رئة الحياة». كان أندريه بروتون يقول: «إن الاحتضان الشعري مثل الاحتضان الجسدي، يغلق كل منفذ على بؤس العالم».