صدرت عن «دار صفصافة»، في جزءين مزيدين ومنقحين، الطبعة الأولى من الأعمال القصصيّة للكاتب المغربي أنيس الرّافعي. وهي أسفار تتألف من ثمانية كتب قصصية وفق تبويب تجنيسي خاص يشمل (التمارين، التعاقبات، الملاحظات، الأصوات، الطقوس، الدليل، الفوتوغرام، والتحريات). تمثل قصص أنيس الرافعي، في كليتها وإخراجها الجديد، مشروعاً جمالياً وتجريبياً شخصياً يحمل بصمة صاحبه المختلفة، وكل جزء من أعمال الرافعي القصصية جاء مذيَّلاً بدفتر شهادة يتضمن انطباعات عدد كبير من الأدباء والنقاد المغاربة والعرب الذين اهتموا بمساره القصصي الإشكالي والمثير لأسئلة إبداعية حارقة ومستحدثة. أشرفت على التصميم الفني للغلافين التشكيلية والشاعرة المصرية سارة عابدين. وقد خصنا الكاتب، مشكوراً، بنص سردي له يُنْشَر للمرة الأولى.الساعة الثامنة مساءً. أرمق أمامي مطعم «الطونكان»، فأدلف إلى الداخل، محيِّياً بخجل وابتسامة لطيفة ودود حارسي البوّابة الرئيسيّة، مفتولي العضلات كلاعبي المصارعة الحرّة «الكاتش».
كنت أرغب في التسرية عن نفسي بالجلوس لوحدي علّ الهموم والتوافه والمكاره تنحسر وتتقهقر عني، ثم تناول وجبة عشاء خفيفة إذا ما راق المزاج، وربّما بعدها يمكن أن أتلمّظ نصف قنينة نبيذ من نوع «إكليبيس» (الخسوف).
هذا المشروب الجليل رفيع الشأن والذكر في مصاف الدنّان، الذي لا ينكث بوعوده في معالجة عللي الروحيّة، والذي طالما خامرني الشعور المتجذّر بأنني أشاطره أو يناصفني نفس الرغبة في الاحتجاب، هو عن ضوء القمر وأنا عن قباحات الناس المشوهين، الممسوخين، المقمّلين، الكسحاء، الخبثاء، من أصحاب الأعماق الضحلة ومناصري رداءات أحوال الكائن.
انتحيت ركناً نائياً عن ضوضاء المبسط وصخب التلفاز في أقصى المطعم، لا يوحي ولا يجلب الفضول، إزاء النافذة المفتوحة تحديداً، المواربة شيئاً ما، المطلّة مباشرة على الشارع المضاء بنور القمر الخالص الصافي، حرصاً مني على أن أكون على مقربة من تيّار النسائم الطريّة، إذ لم أعد أطيق بتاتاً سحائب ونفثات الدخّان بعدما أقلعت ــ لأسباب صحيّة غالبة ــ عن عادة السجائر المأسوف على متعتها منذ ما يربو عن العام.
أُوْتَامَارُو ــ جِيْشَا (حبر وألوان على ورق، النصف الثاني من القرن 18)

وجدتني قاعداً على كرسي تقليديّ من الدّوم بمسند عال قبالة طاولة خشبيّة مخصّصة لفرد واحد، مغطّاة بمفرش يابانيّ من القطيفة الرفيعة، مطرّز بـ«الكروشي»، منقوش ومشغول يدويّاً، ومزيّن برواء، عليه غشاء بلاستيكيّ شفّاف يلفّه ويواريه ويصونه مثل قطعة فنيّة نفيسة لا يتوجّب أن تطولها نوائب العبث، ثم أتى النادل المهزول كـ «الكابال» في أوراق اللّعب أو كستيفان تسفايج في شبابه، صاحب الحاجبين الكثّين، بشوشاً من تلقاء نفسه، ووضع بأدب جمّ قائمة الطلبات مشفوعة بكأس ماء به مكعّبات ثلج، ثم انصرف مثل نصل عاد إلى غمده في انتظار أن أنادي عليه، حالما تستقرّ معدتي على وجبة معيّنة ونفسيّتي على رغبة محدّدة. نسيت أمره تماماً، ثم استغرقت كلّ الاستغراق في تأمّل المفرش اليابانيّ الموسوم بجمال فذّ حسن المنظر، الذي بدا لي وقتئذ، من فرط تدقيقي النظر إلى رسومه المطبوعة بتقنيّة الشاشة الحريريّة على خلفية متّشحة باللون الأسود وفق نمط «المانغا» المصوّرة، حبكة ذات طابع باروكيّ معقّد وإشكاليّ وذي كثافة رمزيّة موحيّة.
أثار انتباهي في أعلى المفرش وجود محبرة صغيرة مصبوغة بالأصفر البرّاق، وريشة طويلة مستدقّة الرأس، ونقطة حمراء ضئيلة جداً بقطر سنتمتر أو ما يناهزه، وفتاة حسناء ترتدي «الكيمونو» وتمسك بباقة زهور زرقاء، من المفترض بنسبة مئويّة شاهقة أنّها «غيشا».
أنشبت منخس عينيّ وعتاد حواسي في تلك النقطة الحمراء، التي تعلو البياض المشعّ والابتسامة الفتّانة لبائعة الهوى «الجابونيّة».
النقطة الحمراء ذاتها، التي ما فتئت تتفاقم وتستفحل شيئاً فشيئاً في خيالات جمجمتي، وشرعت تدريجيّاً بتوهّماتي الجانحة في توسيع إحداثياتها. النقطة عينها، التي كانت تسفر عن سلطعون بحر (المسمّى باطلاً بـ «السرطان الزاهد»، «كارولوس لينيوس»، إن أصاب الطريدة لم يفرح وإن أصابته الطريدة لم يحزن!) سلطعون قاهر، سلطعون متسلّط، سلطعون متكبّر، منفرد في عظمته، سلطعون متعالٍ عن قبول الحقّ أو المنافس، بلون بركة دم، سلطعون يسير قدماً، يسير لا يسمع لخطوه صوت يسير شاكّاً سلاحه العضال، يسير ذو المخلبين مثل مقصّين حادَّين للتقليم أو جؤجؤ مزدوج لسفينة واثقة، يسير فخامة السلطعون الذي تمخّض بغتة من غيهب النقطة الحمراء لما ثابرت بتمثّلاتي على أشغالي التوسيعيّة والتوسّعيّة في إحداثياتها.
النقطة نفسها، التي كانت تمسي سوداء تماماً، ملتهمة لبقية الألوان الأخرى، وضاجّة بصرخات مستعطفة لا مهوّن ولا مستجيب لها، على الأرجح لأنني جعلت سلطعون البحر، هذا الصّيّاد القدير الأدهى من إبليس، ذاك المجرم المتسلسل الرائع المترف المنعّم الذي يعيش داخل القطيفة، المشهور بعبادة اللّحم الناصع الآسر حدّ القرم، الذي قلّما يتعثّر في فريسته أو تنثني عزيمته، يسحب معه الجسد البديع الغضّ الريّان للغادة اليابانيّة إلى داخل خلفيّة المفرش، تاركاً في أعقابه بقايا زهور زرقاء ممزّقة، ويغيبان، يذوبان معاً في جوف الحلكة. أنتبه فجأة، فأعود إلى نفسي طائشة اللّبّ لهنيهة وأحاول أن أمدّ يدي إلى كأس الماء، فتحين مني عن غير قصد لمسة خاطفة خاطئة لتنقلب الكأس وينهرق محتواها، بهذا الترتيب على وجه الدقّة، الماء أولاً، تلته مكعّبات الثلج، على الغشاء البلاستيكيّ الشفّاف للمفرش جهة الوسط، حيث ثمّة يابسة لا حدود لاتّساعها، تحوّلت في لمح البصر، بفعل هراق الأمواه والغمر الطارئ، إلى أرخبيلات وجزر وجداول وأنهار وبحيرات وبحار متفرّقة وغير محمودة العدد. أحرّك بسبّابة إصبعي كتلة الماء ومكعّبات الثلج، جيئة وذهاباً، متقصّياً ومراجعاً المساحات وهندسة الأشكال تتابعاً وتعاكساً: الأرخبيلات صيّرتها معينات، الجزر أسطوانات، الجداول دوائر، الأنهار مربعات، البحيرات مخروطات، والبحار مستطيلات.
ثم مرّة ثانية في هزّة سريعة راجّة للكتلة، المستطيلات أصرتها أرخبيلات، والمخروطات جزراً، والمربعات جداول، والدوائر أنهاراً، والأسطوانات بحيرات، والمعينات بحاراً.
ثم كرّة ثالثة متواترة بلا ترتيب، المعينات أصيّرها جزراً، الأسطوانات أشقّها إلى جداول، الدوائر أحوّلها إلى أنهار، المربعات أوزّعها إلى بحيرات، المخروطات استبدلها بحاراً، والمستطيلات أحيلها إلى أرخبيلات.
يسرف إصبعي في غلوائه المستخفّ بالقوانين ولهوه غير محمود العواقب، رواحاً وغدواً، ويجاوز الحدّ في وصل النقاط والخطوط المنحنية والحجوم والأسطح وتخليق الأشكال الرباعيّة وثنائيّة الأبعاد، فأرفع ناظريّ صوب القمر الصاعد في علياء السماء، لينبثق أمامي على الجزء السفليّ من المفرش سلطعون البحر، ويأخذ توّاً في تدمير وفتّ عضد العالم الذي جئت على تشكيله قبل بضع دقائق تلاشت متفرّقة في النسيان.
السلطعون يتغيّر في رفّة هدب بقدرة قادر إلى حجر ضخم يصبح مربوطاً إلى إحدى ساقيَّ وأغدو بدوري منكوباً في قلب معمعة هذا العالم المنهار بفعل طغيان السيول والفيضانات، عالقاً في خديعة واقع جديد يفوق حدود فهمي.
يجرفني الماء الهوج المنحدر الهائل في لجّته حسب ما يملي عليه هواه، فأتهادى مترنّحاً غريقاً فوق أمواجه الهادرة وقد اختنقت النجدة في صوتي، أطفو بمعجزة مع أفنان متعفّنة وأعقاب أشجار منكمشة على نفسها مشتبكة على جذورها كأياد متضرّعة تبحث عن شيء تتشبث به، مرتجفاً من البرد مهيض الجناح واهن الجسم كما لو انصرفت عليّ أعوام منذ لحظة سقوطي في الماء، شاطّاً بمسافة قصيّة جداً عن الكرسي الذي كنت أجلس عليه في داخل المطعم، وكان الكرسي ذاته يتلامح لي بين دموعي المدرارة وحسراتي الحرّى ويتوارى عني وأنا بين شدّ الموج المتلاطم وجذبه بفعل اضطراب الموقف ووطأة الحجر.
أيكون القمر المنصرف عن منازله نازفاً باختلال علاماته هو سبب كلّ هذا الهول الذي أدرجني ضمن شذّاذ الهلاك؟! أم هو السلطعون الغامض الذي يطاردني في أينما مكان بعد خصامه مع برجه المائيّ؟ وماذا يبغيان مني وهما مخلوقان من بنات خبلي وانفراط سبحة عقلي، فلذتان من رؤاي وجحيمي اللذين لم أعد أمسك إلا بنتف وأقساط منهما؟ ترى، هل اكتملت دورتي، وكان نزولي إلى اليمّ، حيث الماء داخل الماء نظير البحر ينطوي على بحر داخليّ في جوفه، إشارات متباعدة ضلّت عن سبيلي، وعلامات متقاولة عميت عن بصيرتي، ورموز متجادلة استعصت على إدراكي وبقيت مجهولة مغتربة عني؟
أفطن إلى نفسي مرّة أخرى كمن انتشل على حين غرّة من حلم عميق والكأس الفارغة مرتعدة بين أصابعي.
أصابعي ذاتها التي أكتشف أنها امّحت من يدي، فأتطلّع قلقاً كسير الخاطر إلى أرجاء المطعم الخاوي من رواده بنظرة مرتابة قاتمة كما يجدر بسابح غرّ غير ماهر بين ماءَين وغريق بين عالمين وتائه بين الكابوس والحياة، موقناً أنني أدنو من لحظة مفزعة كافّة أمل فيها قد خبا على حافة الفوات. يدي بدورها اختفت من جسدي كما اختفى كامل ما كان يحيط بي.
أقف صابراً على بلوايَ منتصباً على رجل واحدة بعد اختفاء نصف بدني. وقبل أن أبارح مطعم «الطونكان» بما فضل وتبقّى من أطرافي، ألقيت نظرة أخيرة على الطاولة الخشبيّة، التي كان مفرشها اليابانيّ قد انقشعت شتّى تطريزاته وتلاشت كلّ نقوشه وتبخرت جميع تصاويره.
مضيت، ثم اختفت الكلمات من لساني!