حين لم يرها، كعادته كل صباح، تغزل سمرته بعينيها اللوزيتين العذبتين، حدث ما لم يكن يتوقعه أبداً. تدلى من جبينه طفل يضحك، طفل يجلس على حافة نهر، يلاعب السلاحف الصغيرة، ويُنِيمُها على يديه المملوءتين بالحصى والعشب الطري. كم كان يشبهه ذلك الطفل السُلْحُفي الضاحك..لم تقل له إن أرجوحة النوم لا تتسع لاثنين، ولم يقل لها: «وجدت شعرك بانتظاري، يتمايل ويَكْلَحُ لامعاً على رأسك كسرب مضيء من الملائكة عازفي الموسيقى». لماذا تجاهلته هذا الصباح؟ ولماذا تجردت من لمستها العنبية ووجهها الخوخي؟ ولماذا غربت وتركته غامقاً كأنه لا يشبه أحداً؟
أندري ماسون ـ «امرأة تحلم» (أقلام ملونة وپاستيل على ورق، 1927)

«لا بد أنها تقابل قلوباً أخرى»، هكذا قال لنفسه قبل أن تنبت في رأسه أرجوحة بين شجرتين، وامرأة تصرخ في وجه امرأة أخرى، وطفل مبتل يضحك لرجال يصطادون السمك عراة.
فتح النافذة على مصراعيها، فسمع خلفه ضحكة امرأة كأنها تصعد من الدولاب. تردد قليلاً ومضى إلى المطبخ دون أن يلتفت.. ربما كانت تعد طبق السمك الذي يحبه مع قليل من الصلصة الممزوجة بفرحها الغابر. ربما كانت تسرح شعرها وتمنح ضفيرتها شكلها اللطيف. ربما كانت تنهمر في حضن قمر بعيد. ربما كانت تكلم صورتها النائمة على الجدار. ظل كل هذا العمر الفسيح يستغرق في شعرها الممتلئ بالشمس والريح والمطر، وظلت تبتسم لهذا الرجل الأسمر الحزين الذي يحج كل ليلة إلى حقولها. قال لها إنها تشبه لوحة «حقول القمح والغربان» لفان كوخ، وكانت تكتفي بالتطلع إلى عينيه اللامعين بنظرة حنان صافية.
قالت له: - هل يكفي أن يكون شعري طويلاً وغامقاً لتحبني أكثر؟ أجابها: - وهل يكفي أن أكون أسمر حتى يكون لجلدي طعم الحلوى والقبلات؟
لم تكن في المطبخ. شعر بمغص حاد كأن خفاشاً ضارياً استيقظ في بطنه، وشعر بأنها غادرت البيت، وبأنها أدارت ظهرها ومضت لتخضرَّ في عش آخر. وشعر أنه لن ينجو من المناجل التي تنضج في عينه كلما تذكر لوحة فان كوخ. غربان تهجم على حقول قمح مثقوبة القلب، كأن أجنحتها تتساقط على سنابل صفراء مذعورة وأخرى كالحة.
ورآها تلمع في بيت آخر لا يعرفه، مع رجل آخر لا يعرفه، وتلبس ابتسامة أخرى لا يعرفها. كانت تُرضع طفلاً يصرخ.. واااااع.. وااااااااع.. ورأى ثدي امرأة لا وجه لها، يقطر ويفيض بينما كانت تُعَلِّق الشمس في جبين الطفل الذي توقف عن الصراخ تماماً ونام.. كان يطل عليها دون أن تراه، عظامه تهتز وشيء ثقيل كمربعات الإسمنت البحرية يتكئ على ظله.. هل يراها فعلاً أم أن ألوان لوحة أخرى ترتعش في خياله؟
من هو هذا الطفل الذي كان قبل قليل يمص الثدي السخي الحلو ويثغثغ كأنه لؤلؤة تفركل بقدميها الصغيرتين الحافيتين تحت جناح ملاك أبيض ضاحك؟
طفل يحلم بشارع من الورد لأنه يستحوذ على ذراعين بحجم بحيرة ترتجف فيها السلاحف السوداء.. كان يمُدُّ يدَهُ إلى السماء ليلتقط غيمة يَغْمِسُها في النهر قبل أن يُحوِّلها إلى قمر مفروش بالعشب الطري. أربعة رجال عراة يصطادون السمك، يمسكون الشباك وينتظرون، ويهشون للطفل الذي كان يوزع الحصى المبتل على أصابعه. كان يضحك.. وظل يضحك ويضحك حين رآهم يطلقون سيقانهم العارية للريح. انتزعوا أياديهم من الشباك..آآآآيمااااااا.. اكتشفوا أن ثعباناً مرجاني اللون كان يروادهم عن نفسه، فتفرقوا مذعورين... ظنوه جذع شجرة جوفاء يطفو على سطح النهر.. آآآآآيمااااا.. وتأثثت أرواحهم بمنجل عزرائيل المغطى بالخز الأخضر قبل أن تَعْلق ملايين الضحكات بظهورهم المرتجفة وراء الشعاب الصخرية.. كلهم انكمشوا وصاروا يحاولون ترميم ما تبقى في أجسادهم من أنفاس..
من هو هذا الرجل الذي كان يغمس رأسه في نهر رأسها ويضحك؟
رجل يشبه سالفادور دالي. شاربان معقوفان إلى الأعلى، ونظرة برّاقة تنسل من كأس من الكريستال لتسقرّ في قدم قط أزرق مرقط باللون الأصفر الفاقع. الرجل يمشي خلف امرأة تتنزه في حديقة عمومية. وجهها مغطى بباقة ورود، وتحمل في يدها ساقاً آدمية، وفي اليد الأخرى قطعة لحم بقري نيء. كان يرى ذلك اللحم المتوقد، ويفكر في جالا التي يحبها أكثر من بيكاسو. وحين انتبه إلى أنه يمشي وراء امرأة عارية تغطي طفلاً نائماً بشعرها الغامق الطويل، فكر في لوحة «ملاءمة الرغبات»، واستغرق في الطرق المثلى لجز رؤوس الأسود الرهيبة والمتوثبة..
من هي هذه المرأة مغلقة الأبواب التي لا يكاد يثبت وجهها ليراه؟
امرأة لم يكن المطر بالغ الكثافة حين مد لها الرجل الذي تزوجته وردة أرجوانية، لكنها عوض أن تبتسم انكسرت أمامه، وقطَّعت أمامه وريد الوردة. لم تكن غاضبة حين فعلت ذلك، كانت تشعر بأن الصراخ الذي طالما ملأها يتبدد. «ماذا سيقع لو لم أتزوج هذا الرجل؟ هل سأكون غير قادرة على النمو والضحك؟ وماذا لو تزوجت رجلاً آخر يخفي رأسه تحت الوسادة ليبكي؟». تساءلتْ ولم تكن غاضبة. لم ترم باقة الورد التي كان يخفيها وراء ظهره. وضعتها في المزهرية وهي تضع على خده أكمل قبلة. حارقة ونازفة. خد الطفل، لا خد الزوج.
عاد إلى الغرفة متعرقاً، وتمدد على السرير. أغلق عينيه وفتح فمه كأنه يصرخ: - لا بد أن أطرد هذه الأشباح من رأسي. أعلم أنني لا أحلم. لكن ما بالي أقفز من غيمة إلى أخرى لأكفكف دمعة تختلج في عينين لوزيتين بحجم قمرين؟
لا صراخ. كل شيء يختفي. الوجوه والجدران والدولاب الذي تختبئ داخله امرأة توبخ امرأة أخرى. امرأة بشعر غزير يشبه عناقاً بين شجرتين، وأخرى صلعاء بنظرة متحفزة كالوتر المشدود. تتعاركان، والواحدة تمزق ثوب الأخرى بإصرار متمهل، وتبتسم. لم يكن يسمع، كان يرى ويفرك عينيه غير مصدق ما يراه.
امرأتان كالتوأم تتبعثران أمامه عاريتين، الأولى ترق وتحنو، والثانية تمتلئ وتصخب كأنها لمحت دببة جائعة تطوِّق غريمتها التي تحاول أن تغطي جسدها العاري المختلج. ذات الشعر الغزير تمسك بمعصم الصلعاء، تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تطرحها أرضاً، فلا تفلح. تعاود المحاولة، فيندلق لسانها كالجمر السائل وتسعل بشدة، ثم تقترب من الصلعاء وترتخي بين ذراعيها قبل أن تَدْخُلها كالبخار المرتد وتغيب فيها تماماً.
حين فتح عينيه ثانية، كان يقوم بنزهة مع حبيبته على الكورنيش، يحدثها عن ولعه بشعرها الغزير، لكنها تهرب منه لتداعب قطتها الزرقاء المرقطة باللون الأصفر الفاقع. يدنو منها لأنها تحبُّ المداعبة، ويسألها بفرح عن غيمة مخرومة رآها في منامه. كان على وعي تام بأن الغيمة بنت في الرابعة عشرة، تحمل جسدها الصغير داخل ملاءة سوداء مثل جميع نساء الجبل، وحقيبة بنية لا تصلح لشيء. تسير جنب رجل ثلاثيني يدخن «الفافوريت» بشراهة ليداري عضات الشمس التي علقت بوجهه كفزاعات تذرف قبعات من قش على حقل أجرد.
كانت البنت تضحك للمدينة، وتحاول إسكات نباح السيارات بإغماض عينيها لاسترداد الأرض والجنائن ورائحة الورد والشعر الغزير المحصن بألف باب ورمح. بنت تمر كسحابة فوق حقل من أشجار اللوز. وشم أخضر يضيء على ذقنها الحليبي، ولآلئ من الحركوص تلمع على حاجبيها الهلاليين الضاحكين، وكُحل شارد طالما رن كخلخال في قلب ذلك الطفل الذي يلاعب سلاحف النهر ويلهو بالعشب المبلل ويلوح لمراكب من ورق ويضحك بغزارة أمام رجال عراة تحولوا إلى أقدام كثيرة وغابوا وراء الشعاب الصخرية.
كان دائماً يرسم وجه أمه كأنه الأبد.. وظل يرسمه حتى تحول الوجه إلى زفرة تنين.. وتحولت الأرض إلى عينين لوزيتين عذبتين.
* المغرب