بالنظر إلى الأخبار الأخيرة حول تدخل روسيا المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأميركية ــ وهو أمر ثانوي لنا هنا ــ مما لا شك فيه أننا نعيش في عصر مختلف تماماً عما كان قائماً قبل عقدين. يلخص كتاب «مجتمع الفيسبوك: تيهنا عبر تشاركنا» (Facebook Society: Losing Ourselves in Sharing Ourselves. Columbia University Press 2018. 292 pp. Roberto Simanowski. Translated by Susan H. Gillespie) لروبرتو سيمانوفسكي ذلك بالقول إن أقصر طرفة أو نكتة كانت سائدة في أيامه هي «شوهد طالبان يمران على حانة». يشرح المقصود بأنّ النكتة في أيامنا هي عكسها تماماً. الجديد هنا أن أحد الطالبين يجلس في حانة يحتسي ما يحتسيه، بينما صديقه قابع في جهاز السمارتفون على طرف برنامج الفيسبوك، يتبادل الحديث مع رفيقه عبر الفضاء الافتراضي. ويضيف إن «أقصر نكتة في هذه الأيام ممكن أن تسرد على النحو الآتي «ثمة شخص ينظر في محيطه»».

يتساءل الكاتب: ما أفضلية شخص يتطلع في الغرباء حوله وهم ينتظرون قدوم الحافلة، على من يحدث حسابه في الفيسبوك أو في وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى!
مارك زوكربيرغ هو المحرض على إقامة صداقات، فهو القلِق الذي يذكرك بأنك لم تظهر منذ أيام عديدة على الفيسبوك؛ وإليك بعض الأشخاص الذين يمكنك التواصل معهم. تواصل مع أصدقائك والعائلة وزملائك في الدراسة أو العمل لتتعرف إلى آخر آرائهم بخصوص الأمور المستجدة في العالم، ولتشاهد الصور التي يرسلونها. فقط 50% من بروفايلك منجز، ونأمل في رؤيتك مجدداً في الموقع، ومع امتناننا لأنك مررت عليه الآن. بل إن الخوارزمية تساعده في معرفة أنك أنهيت علاقتك مع صديقتك، وقد يقترح عليك التواصل مع صديقتها المفضلة!
ليس بإمكان المرء إنهاء الصداقة مع الفيسبوك، ولذا يبدو أنه عليك قبوله كما هو: صديق؟ شقيق؟ الأحرى: الأخ الأكبر (big brother) الذي يراقبك على مدار الساعة 24/24.
نعم، سوف نلعن هذا الزمن وما ينتجه من أخلاقيات: جيل جديد مدلع؛ انحطاط الثقافة؛ الانحطاط الأخلاقي، وتغرب البشر؛ سيطرة التكنولوجيا على العلاقات بين البشر؛ الاختيال النرجسي؛ الضجر والجفول؛ التهاب مفاصل العنق والإبهام!
والكاتب الألماني روبرتو سيمانوفسكي أستاذ الميديا الرقمية والثقافة في الجامعة الكاثوليكية في ريو دي جانيرو، وصاحب مجموعة من المؤلفات في مادة تخصصه، يقول إن الشباب يتحدثون عن الفيسبوك على نحو مختلف عن حديث البالغين والراشدين، وبنفس الطريقة التي ينظرون فيها إلى ثقافة الاستهلاك المختلفة عن رؤية المنظرين السلبيين.
علينا النظر في حقيقة أنه رغم نقاط النقد الكثيرة لفيسبوك، بمن فيهم بعض من طوره، فإن أعداد المنتمين إليه في ازدياد مطّرد.
لماذا؟ الإجابة: لأنه «كول»، ولأنه أُنس وتسلية. يمنح الفيسبوك الفرد إحساساً عارماً بأنه شخصية عامة، ذو تاريخ وثمة أشرطة صور عنه، وجمهور ورسائل معجبين. والفيسبوك يمنح الآخرين فرصة الاطلاع على حيوات الآخرين التي تضم أشخاصاً يرد ذكرهم في حياتنا، والاطلاع على الثرثرة والأخبار والنصائح والأنشطة السياسية والحفلات العامة والنقد الفني والروابط الأكاديمية. يمنح الفيسبوك المرء التواصل بأقل مقدار من ثمن التفاعل، ذلك أن المرء ليس في حاجة إلى الاتصال بكل فرد على انفراد: ترسل رسالة واحدة إلى الجميع، فيصلك الرد من الجميع. لكن الكاتب يقول إن هذه الأسباب سطحية ووجب النظر في ما هو أعمق من ذلك. علينا فهم الفيسبوك على أنه أحد مظاهر تطور ثقافة وجب النظر فيه من منظور فلسفة التاريخ، ووجب بالتالي عدم النظر إليه من منظور الاضطهاد السياسي والاستغلال الاقتصادي.
لكن العلم اختلف: تصور مدى الملل من الاضطرار للاستماع إلى زميليك في العمل الجالسَين معك على طاولة الغداء في الشركة يتحدثان عن مشاريعهما الجديدة، أو الاستماع إلى مشاكل الزوجين الجالسين على طاولة قريبة منك في المطعم. تصور مدى السعادة التي ستشعر بها عندما تتحادث مع صديقك أو صديقتك عبر الهواتف الذكية (السمارتفون)، أو قراءة تعليق والدتك المحبب على آخر «سيلفي» أرسلتها لها.
الانتقادات آنفة الذكر ترتكز ــ دوماً بحسب الكاتب ـــ إلى نظرة إلى عالم مهجور لم يعد قائماً [!]. هل هذا صحيح! ألا تصلنا على أجهزة السمارتفون تحذيرات من الشرطة بضرورة الانتباه إلى نظام السير وفيلم آخر لحادثة مرور ضحيتها شاب كان ينظر في جهازه بدلاً من الانتباه لحركة السير!
إذًا، ما سبب نظرتنا السلبية تجاه الآخرين الذين يحدقون في أجهزتهم! هل لأنهم يتجاهلوننا؟ وهل يتفادون التواصل معنا؟ أم أننا نشعر بالقلق لأنهم يهربون من أنفسهم! هل يعتمد تقويمنا للميديا على عدد الأفراد المنضمين إليها؟
ثمة نقاط نقد كثيرة مثل رسملة المشاعر واستغلالها، وتجيير الاتصالات وتسويق الذات وتعليم النرجسية وإضاعة الوقت والتفاهة والابتذال. لكن الكاتب يذكّر القراء بقول كان سائداً في عصر النهضة: «إن القراءة بهدف تمرير الوقت أمر لاأخلاقي لأن كل دقيقة من حياتنا مليئة بالواجبات التي علينا عدم إهمالنا»، أي واجبات!
رسملة المشاعر واستغلالها، وتسويق الذات وتعليم النرجسية


يعالج المؤلف قضايا كثيرة مرتبطة بالفيسبوك، لكنه يرتكز إلى ثلاثة دلائل أو معايير، ويركز على قضايا هي السيكولوجية والسردية والسياسية. ويوضح:
- خلف نرجسية الفرد القلق الذي يستعمل الفيسبوك، نرى الخشية من التجربة الذاتية، التي أوفدت للجماعة في لحظة محددة.
- يقوم الفيسبوك بإنشاء «سيرة ذاتية» متسلسلة والسارد فيها الشبكة وخوارزمياتها.
- مع أن وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بإنشاء جماعة كوسموبولتية عابرة للتباينات السياسية والثقافية، إلا أنها لا تطور أنموذجاً للتسامح يمنع عودة السرديات الدكتاتورية.
صحيح أن الفيسبوك يوفّر نقطة انطلاق للنقاش، لكن هدفه الأساس فهم مجتمع الفيسبوك. ولذلك فمن المهم النظر في حقول معرفة مجاورة ذات صلة والنظر في تجارب تاريخ الثقافة والاطلاع على آراء الفلاسفة والكتاب في الماضي ومنظري العقود الماضية.
الفرضية الأساس في هذا الكتاب أن شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات كتابة المذكرات تدفع بمستخدميها إلى الانخراط، نوعاً ما، في شكل من السرد الذاتي غير الواعي وغير المدروس، الذي يفضل البوح الذاتي الضمني على الصريح، ويفضل أسلوب العرض الميكانيكي (من خلال الصور أو المشارَكة المؤتمتة) على أسلوب العرض الواعي (من خلال البيان التعبيري النصي أو من خلال إيجاد بنية سردية). عند التعبير عن الذات في موقع الفيسبوك، وفي شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، يلجأ إلى أسلوب عفوي وعَرَضي وتوثيقي، لا إلى أسلوب مدروس ومترابط وسردي. والنتيجة هي إيجاد شكل من «السيرة الذاتية الآلية» أو من «الوصف الذاتي المتجاوز للإنسان (posthuman)» تكون فيه الشبكة وخوارزمياتها الرواة الفعليّين.

* Facebook Society: Losing Ourselves in Sharing Ourselves. Columbia University Press 2018. 292 pp. Roberto Simanowski. Translated by Susan H. Gillespie