تعود شخصيّات ميلان كونديرا (1929) إلى تشيكيا، لكن هناك ما يظلّ يمنع أي احتمال ببقاء دائم. السنوات الأولى لهجرتهم تشهد على ذلك. كيف تستطيع البلاد أن ترسل في النهار حنيناً لا يحتمل، وفي الليل كوابيس الشرطة السرّية؟ في رواية «الجهل» (2000)، تصبح العودة مرادفاً لمواجهة الذات السابقة، والهرب منها في الوقت نفسه. ترفض صديقات الصبا تناول نبيذ أحضرته معها أيرينا من فرنسا، بينما يبتلعن أكواب البيرة بساديّة، كما لو أنهن يشطبن سنوات طويلة عاشتها في باريس. علاقة جوزيف مع ماضيه خفتت مع الوقت حتى تبدّدت تماماً: «يجب فهم التناقض الرياضي الظاهر للحنين: إنه أقوى في بداية الشباب حين يكون حجم الحياة الماضية ضئيلاً جدّاً».

لكن زيارته المتأخرة لتشيكيا ستفاجئه بما هو أكثر قسوة من الرفض أو عدم الاعتراف، ستقابله بالشعور بالخجل مما فعله مع فتاة يعثر على ذكرياته معها في دفتر يوميات قديم. ظلّت تشيكيا، هكذا، كأنها أحد أبطاله أو ديكوراً روائياً يحوي أفكاره ومفاهيمه الفلسفية حول التاريخ والحب والجسد والذاكرة والمنافي، حتى في آخر رواياته «حفلة التفاهة» حول السنوات الستالينيّة. وإذا كانت بوهيميا مكانَ الشباب بالنسبة إلى الكاتب الثمانيني، إلا أن الوطن نفسه، فكرة غامضة جداً كما قال مرّة في مقابلة: «أتساءل إذا كانت أفكارنا عن الجذور، ليست إلا خيالاً نتشبّث به». هكذا، بخلاف أبطاله، لم يرجع كونديرا إلى بلاده حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا في بضع زيارات قصيرة. صحيح أنه قبل نيل «الجائزة الوطنية للأدب التشيكي» (2007)، إلا أنه لم يذهب إلى تسلّمها في براغ التي زارها للمرّة الأخيرة قبل أكثر من عقدين. بقي يتفادى بلده وصحافييها ولغتها التي رفض ترجمة رواياته إليها، بعدما ظلّ يكتب بلغتها لفترة طويلة، حتى انتقاله النهائي للكتابة بالفرنسيّة. لكن هذه القطيعة مع بلاده قد تنتهي بعد لقاء كونديرا وزوجته فيرا أخيراً برئيس الوزراء التشيكي أندري بابيش في باريس. إذ دعاهما الأخير إلى زيارة تشيكيا، وعرض عليهما منحهما الجنسيّة مجدّداً بمبادرة رسميّة، بعدما جرّدهما الحكم السوفياتي منها خلال السبعينيات. في ذلك الوقت، كان الشاب الذي تحمّس للشيوعيّة مع بدايات الحكم هناك، قد بدأ يتراجع نحو أمكنة أكثر فردانية في رواياته التي لم تلائم السوفيات. حتى حين هرب بعد ربيع براغ، لاحقته أشباح ماضيه مراراً باستعادة انتمائه السابق تارة، أو باتهامه بالعمل مخبراً للشرطة طوراً.