يعرض الناقد والروائي البريطاني جون بيرجر (1926ــــ 2017) في روايته «جي» (1972) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار المدى» (ترجمة شادي خرماشو)، رؤية كاشفة تُخرج الإنسان من تعقيدات العقائد والأفكار والشرائع، ولا تعيده إلى الغرائز بقدر ما تحرره بالامتثال لها. في الرواية الفائزة بجائزة «بوكر» 1972، يتّخذ جون بيرجر زاوية مغايرة وهامشية لقراءة أحداث كبرى في مطلع القرن العشرين، باستخدام شخصية غير فاعلة ولا متأثرة بما يدور حولها. شخصية ولدت ونشأت في ظروف خاصة، يتخذها الناقد البريطاني أداة كشف عميق لبنى وعلاقات وأشكال اجتماعية ساكنة، أداة تخريب لهذه البنى، وسعي إلى التحرر من منظومة ذكورية تترك آثار تشوّه لدى المرأة، وتجعل من رجل تلك المرأة المشوهة رجلًا مشوهاً بالقدر ذاته، لتنطوي حرية المرأة على حرية شريكها بالضرورة. إلّا أنّ التحرر من هذه المنظومة، لدى بيرجر، يتجسّد في الجنون، في هتك المقدس وتدنيسهِ. تشهد الرواية لحظات عنيفة وانفعالية. أفكار تولد عن الأفعال وثقافة تُكتسَب عبر التحرر. تتحدث الشخوص بمفردات سلوكية، ويبرز الراوي ليحلل سلوكاً جنسياً أو ليوضح موقع بطلهِ من الأحداث المختلفة.

إنّ الراوي لا يقود السرد، لا يصف الشخوص بإسهاب ولا يتحدث عنها، وإنّما يظهر رفيقاً لها لا مبتكراً. يساعدها على النمو، يساندها كي تعبر العثرات ويرمم ما يفوتها، يتحدث عن عالمها الداخلي النفسي، ليكون كلّ فعل في الرواية دوراً يؤدى في مسرحٍ للحياة والحب. يذكر بيرجر منطقه السردي ويساعد عبر إشارات عدة في تفكيك ذلك المنطق، إذ يشير إلى أنّ «رغبة الكاتب بالاستمرار حتى النهاية تقتل الحقيقة». لذا نراه يحتال على الوصول إلى نهاية من النوع الذي تتوحّد فيه المصائر، ويبحث عن وحدة أخرى تجمع مسارات السرد. تتركز هذه الوحدة في سلوك «جي». إنّه سلوك مستقر لا ينمو أو يتطور وإنّما يتجلّى في حياة النساء وتغير علاقاتهن. لا ينهي بيرجر أيّاً من مصير الشخصيات النسائية التي عرفها «جي»، يعبرن حياته في انفعالٍ مؤقت، لتمتدّ الصفحات على بطل متجانس ومعزول. إنّ جي تلك الروح المثابرة التي تزرع الشغف في حياة من يعبرها من دون أن يعرف استقراراً أو سكينة، ويجد في الارتحال والتخلي سكينتهُ.
يمثل الفعل الجنسي ذروة جميع العلاقات التي يسردها الراوي، سوى أنّه ليس فعلاً مجرداً أو عاطفياً وحسب، وإنّما بدءاً من العلاقة غير الشرعية التي جمعت والدي جي، ثم معرفته الحب لمربيتهِ وهو طفل، وممارسته الحب للمرة الأولى مع خالته، ولاحقاً رؤيتها في جميع النساء اللواتي عرفهن طيفاً يتعزز مع الزمن. إنّ ذلك الفعل الجنسي الذي يظهر غاية في حياة جي، ما هو سوى وسيلة للقول والرفض والإدانة. يسعى الراوي عبر تعقيبات كثيرة إلى تحليل هذا الفعل وتحميلهِ قضايا فلسفية وموضوعات نفسية، ولا تتوقف آثار تلك النشأة الشاذة التي نشأها جي ــ وقد كان مجرد نزوة في حياة والدتهِ ـــ عن الظهور في صورة لامعة ومشرقة ومحفزة في لحظات عامة وفارقة. إذ بينما يحتشد الناس لرؤية أول تجربة لعبور جبال الألب عبر الطائرة، بينما يحتفي الناس بمغامرة غير مسبوقة لأحد الطيارين، يسعى جي لإغواء الخادمة. وفيما يحتشد الناس وراء إثارة بهلوانية واستعراضية، ينحو جي منحىً خاصاً لصنع إثارة ذاتية. بينما يعتقد الطياريون أنّهم يصنعون التاريخ، يكتفي جي بصناعة متعة طارئة وحقيقية. يدفع بالخادمة إلى إنكار الثقافة التي لا تتوقف عن تكرار أصداء الخطيئة في نفسها.
زاوية مغايرة وهامشية لقراءة أحداث كبرى في مطلع القرن العشرين

فيما تعلم أنّ عليها الحفاظ على نفسها من أجل خطيبها ووالدتها ومن أجل الرب وبينما الطائرة تحلق، لم تعد الخادمة، أمام جي، تلك المرأة نفسها، وإنّما صارت امرأة تمنح ذاتها لرجل يشعرها بخصوصيتها، لينتهيا من الحب فيما تتحطم الطائرة على أطراف الألب. تلخّص هذه المرأة مواقف مشابهة في النص مع زوجات أصدقائه أو غرمائه، وسط ثورات الغضب في الشوارع أو أخبار الحروب والهوس بصنع البطولات. لم يتوقف جي عن السعي وراء نساء كثيرات، حيث تقف امرأة واحدة ومعزولة، يشعر بها ويلتمس قرباً منها. بدا بيرجر حريصاً على تحليل العقلية الفصامية لنساء يمتلكن ذاتاً مراقِبة وذاتاً مراقَبة، ليبرز منظراً جنسانياً وثورياً. يخلّص المرأة من طبيعة صنعها تفكير سلطوي ذكوري، ويعيدها إلى طبائع حرة. إنّه يكتب لامرأة صُنعت من التراب لا من ضلع أحد، ولا يكتفي باستعراض أفكار وعرض نظريات، وإنّما يستغل هذه الحالة الفصامية فنياً ليتدفق النص بدراما صادقة ومنفعلة وتلقائية.
يبحث جي عن الصمت وسط الثرثرة، يسعى وراء حقائق بدائية وسط قلق التساؤلات النظرية. يمثل مشهده وهو يرقص الفالس مع فتاة منبوذة وسط حشد من النبلاء ذروة ثوريّته الاجتماعية، بينما الموسيقى تصدح ودوائر الفالس تتسع وتضيق. لا يتوقف جي عن توجيه الإهانة إلى ثقافة سائدة، عندما يرقص جي الإيطالي مع فتاة سلوفينية، فهو ينبذ عنصرية الإيطاليين، مستخدماً ذاتهُ الحقيقية في سبل خطيرة ومهلكة، لتتراجع الأفكار مجدداً ويعيد بيرجر للأفعال دلالتها الصاخبة في نصٍّ ملهم ومتدفق.