في حضن جدّه الذي كان يمتلك صوتاً عذباً عند ترتيل القرآن في منزل الأسرة في بالكسير التركية بجوار مرمرة، وَقَع نديم غورسيل (١٩٥١) تحت التأثير الشعري للآيات القرآنية والصورة الأسطورية لنبي الإسلام محمد. صورة لم تفارق واحداً من أبرز كتّاب تركيا اليوم، إلى جانب أورهان باموق وإليف شافاق وإصلي أردوغان، هو الذي وضع أكثر من أربعين مؤلفاً في الرواية والمقالة والسياسة والثقافة. ها هو يُصدر أخيراً مؤلفاً مرجعياً حول صورة محمد في الأدب الغربي، وتمثلاته في أدب أعلام الأدب القديم والحديث من دانتي مروراً بفولتير وغوته وفيكتور هوغو ولامارتين ورينان، وانتهاء بآسيا جبار وسليم باشي وسلمان رشدي وإدريس الشرايبي وغيرهم. حول كتاب «الصورة الثانية لمحمد» الصادر أخيراً عن «المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا»، حيث يدير غورسيل القسم المختصّ في الدراسات الشرقية، دار هذا النقاش في أروقة «معرض الكتاب الفرنكوفوني» الذي يختتم غداً في بيروت. تفرع الحديث ليتناول قضايا تتعلق بالأدب والثقافة وصدام الحضارات والتصوّف، لتتبدى أيضاً صورة غورسيل الموسوعية ونظرته النقدية إلى تراث بلاده والمنطقة عامة، والعلاقة الملتبسة والشائكة مع غرب لم يتعب من إسقاط خياله الوهمي وأحكامه المسبقة على شرق الأساطير والجواري والحمّامات و«ألف ليلة وليلة».
في زمن طافح بالقنوات الدينية التبشيرية، وسيَر الأنبياء المسموعة عبر أحدث التقنيات الحديثة، والمكتبات الغنية بالدراسات عن نبي الإسلام شرقاً وغرباً، لماذا كتاب «الحياة الثانية لمحمد ـــ النبي في الأدب» في هذا التوقيت بالذات؟
-قبل أن أشرع في كتابة «الحياة الثانية لمحمد» الذي يضيء على تمثلات صورة نبي الإسلام في الغرب وفي الأدب تحديداً، منذ القرون الوسطى حتى زمننا المعاصر، كنت قد كتبت رواية أسميتها «بنات الله» (2008) وهي مترجمة بالمناسبة إلى العربية عن «دار الفارابي». في هذه الرواية، حاولت أن أُسائل الإيمان الديني مع احترام المعتقدات، ما سبب لي ملاحقة من قِبل السُّلطات. ففي تركيا، التي هي بلد علماني بالمناسبة، اتّهموني بتحقير القيم الدينية للشعب، مما لم يكن في نواياي أصلاً. لقد سحرتني شخصية نبي الإسلام منذ طفولتي. وفي رواية «بنات الله»، جعلتها شخصية روائية، ما ينزع عنها القداسة قليلاً. وأظن أن الكاتب في زماننا يجب أن يتمتّع بهذا الحق بالاهتمام بتاريخ الديانات، وأن يجعل من الأنبياء شخصيات أدبية، أن يدخل في العالم الداخلي لنبي ما. حسنا، بكتابة «الحياة الثانية لمحمد»، أردت أن أتابع الطريق ذاته، لكن ليس عبر الرواية هذه المرة، بل عبر مقالة طويلة. إنه عمل أجده في غاية الأصالة لأنّ هناك كماً هائلاً من الكتب التي أُنجزت حول محمد، من كتب السيرة أو المقالات. لكن قيمة هذا الكتاب تنبع من كونه يعالج الصورة أو التمثّلات التي حظي بها محمد في الأدب الغربي.

يتناول الكتاب نظرة مفكري الغرب من دانتي وغوته وفولتير وهوغو ورينان إلى نبي الإسلام، وصولاً إلى الصورة التي ظهرت في الكتابات الحديثة عند سلمان رشدي وآسيا جبار وسليم باشي وغيرهم، ممن جعلوا من محمد تارة شخصية تاريخية ما ينزع عنها القداسة قليلاً، أو بطلاً روائياً خيالياً تارة أخرى. لماذا مقاربة شخصية مركزية في التاريخ كمحمد من باب أدبي وروائي وليس من زاوية ثيولوجية أو فلسفية؟
- إن السطر المكمل لعنوان هذا الكتاب هو «النبي في الأدب». لقد حاولت أن أدرس صورة نبي الاسلام كما تجلّت في نصوص بعض الأدباء، منذ القرون الوسطى، الزمن الذي كانت فيه الغزوات والفتوحات الإسلامية في أوجها. لقد رأى الغرب المسيحي حينها في محمد مخاتلاً ومدّعياً للنبوة، أو حتى صورةً للمسيح الدجال الجاهز لقتال المسيح الحقيقي في آخر الزمان. لقد رسم أدب القرون الوسطى كاريكاتورات نابية عن الطقوس الإسلامية، ولم يتردّد في توجيه إهانات قاسية بحق النبي. في عصر الأنوار، ومع فولتير في «التعصب أو محمد النبي»le Fanatisme ou Mahomet le Prophète وغوته في «الديوان الشرقي والغربي» تحديداً، بدأت المحاولات الغربية الجادة من أجل تحديد شخصية محمد تاريخياً ودراستها بجدية. كان يجب أيضاً انتظار الرومانسيين الغربيين من بينهم لامارتين الذي خصص له كتاباً كاملاً في مؤلفه الموسوعي الذي يتناول الإمبراطورية العثمانية، وهوغو في «ديوان أسطورة العصور» ليحظى نبي الإسلام بصورة إيجابية في الغرب. لقد صنّفوه حتى كشخصية جذابة. في القرن العشرين أخيراً، حظي الكتّاب الجدد بالحرية في أن يجعلوا منه شخصية روائية. في كتابات ادريس الشرايبي (ثلاثية أم الربيع، ولادة عند الفجر ورَجل الكتاب)، آسيا جبار (بعيداً عن المدينة المنورة)، سليم باشي (صمت محمد)، ماريك هالتر (رواية خديجة، رواية عائشة، رواية فاطمة بنت محمد)، وسلمان رشدي (آيات شيطانية)، صار محمد خيالياً، مبتعداً عن الصورة التقليدية الإسلامية. إن معرفة صورة محمد عن طريق الأدب، يمكن أن تضيء قليلاً الأفق الذي صار مظلماً بفعل المتعصبين. لأنه حتى لو أن نبي الإسلام قد عاش حياة واحدة، فإن الأعمال الأدبية قد سمحت له أن يلبس أكثر من رداء وأن يَظهر بأكثر من صورة. لقد تناول الكثير من الفلاسفة مثل هيغل وغيره محمداً من الناحية الفلسفية، لكن هذا ليس من ضمن اختصاصي.
في الغرب، يتم التعامل مع النسخة الصوفية من الإسلام على أنها الأكثر انفتاحاً من الإسلام السني


ماذا عن صورة محمد عند الشرقيين والمسلمين تحديداً؟ وهل يمكن أن تفصل قليلاً في جعل محمد شخصية روائية؟
- هناك خطاب تبجيلي يتعلق بمحمد في البلدان الإسلامية، بحيث لا تقال إلا أشياء جيدة حوله لأنه شخصية مقدّسة، وهذا ما أفهمه تماماً. ولهذا، فإن الأمر لا يثير اهتمامي كثيراً. ما يعنيني هو كيف أنّ نبياً يتحول إلى شخصية روائية مع كل نقاط ضعفه وقوته. وهكذا يمكن للأدب أن يعطي صورة أخرى لمحمد وأن يجعل من أسطورة وسرّ هذا الرجل أشياءً ملموسة أكثر في ملامحها الأساسية. ملامح شخصية تاريخية عاشت فعلاً، وحاربت عبادة الأصنام وأسست ديانة ونقلت رسالة تفتَرض أنها الكلام الإلهي. قبل أن يصير نبياً، نشأ محمد يتيماً يعوزه الحنان الأُسري، مراهقاً في كنف رعاية عمه أبي طالب، ورجلاً شاباً بكثير من الأحلام المشوبة بالقلق، وتاجراً حاذقاً يدير تجارة خديجة التي صارت زوجته في ما بعد، ورَجل ثقة وزوجاً وفياً في حياة خديجة، ومن ثم انتقل إلى المدينة ليصبح رئيساً للدولة الإسلامية الفتية، حيث أدار الأعمال السياسية والغزوات الحربية ونوعاً من الحرملك مع زوجات شرعيات تسع، إضافة إلى ما ملكت يمينه. باختصار، كان محمد رجلاً استثنائياً في عشيرته وشاهداً على عصره، مع كل نقاط قوته ووهنه، رغم أن الإيمان الإسلامي يريده معصوماً. يمكن للخيال أن يتسلّل إلى العالم الداخلي للشخصية المحمدية، ليجعله فرداً يتطور وسط بيئة معينة، لتقوم الرواية، بما تحمله من نظرة نقدية بهدم الخطاب التبجيلي أو الاستهزائي الغربي الذي يقوم على نقيضه، ومن أجل استعادة حرية التعبير المهددة اليوم في تناول مواضيع كهذه.

لقد قامت على ضفتي المتوسط الكثير من الأحكام المُسبقة حول صورة الشرقيين في الغرب الأوروبي، ومن الجهة المقابلة، يمكننا استذكار مثلاً رحلات محمد ايليا جلبي، الذي كان ديبلوماسياً عثمانياً لأوروبا وفرنسا تحديداً التي يصفها بـ«جنة النساء والكافرين». هل سوء الفهم هو سمة ملازمة لتاريخ الشرق والغرب؟ وهل السفر والاختلاط كفيلان بتبديد الكليشيهات والأحكام المسبقة؟
ـ للأسف، على طول التاريخ، كان هناك الكثير من الأحكام المسبقة، لكن الغرب خاصة هو من رمى بفانتازماته الخاصة على الشرق. ادوارد سعيد حلّل بشكل ممتاز هذا الأمر في كتابه المرجعي «الاستشراق». لمدة طويلة نسبياً، لم يثر الغرب اهتمام العثمانيين، في حين أن السلطنة العثمانية كانت تحظى باهتمام الغربيين بشكل دائم. كانوا يرسلون سفراء مثلاً، فتاريخ انتداب أول سفير فرنسي إلى «الباب العالي» كما كانوا يسمّونه حينها، يعود إلى بداية القرن السادس عشر. أما محمد جلبي الذي أشَرت إليه، فقد كانت زيارته إلى فرنسا متأخرة قليلاً، في زمن لويس الخامس عشر، أي في القرن السابع عشر. لكنّ الكتاب الغربيين، ممن عاشوا في الشرق، تكلموا عن الشرق الخاص بهم، أكثر من الشرق الحقيقي الذي رأوه وعايشوه. اليوم، بداهة هناك العولمة، نعيش في عالم صارت فيه الأسفار يسيرة، وليس كما في السابق حين كان يتطلب السفر أياماً وأشهراً عديدة. لقد كتبت أيضاً نصوصاً عن السفر حول البلدان المتوسطية والغربية التي زرتها. إنها إذن نظرتي ككاتب تركي يطل على الغرب، لكنني أحاول ألا أشاهد هذه البلدان وفقاً لتصور مسبق.

بعد هذا التقصّي لصورة محمد التي تبدو مريعة في أدب القرون الوسطى مثلاً، لماذا لا تبدي النصوص الكنسية والأدبية المسيحية تسامحاً نظرياً على الأقل، كذلك الموجود في النصوص الإسلامية المبكرة حول النبي عيسى وأمه العذراء، حين تتكلم عن «الآخر»، الآخر المسلم تحديداً؟
ـ نعم، لقد رأى الغرب، وخاصة في القرون الوسطى، الإسلام كتهديد. بحق، كان الإسلام في أوج تمدّده وكان قد احتل الأقاليم التابعة قبل مجيئه إلى هذا الغرب المسيحي. إذن تولّدت صورة بغاية السلبية عن النبي رغم أنها تطوّرت مع الوقت. مثلاً، دانتي الذي يعتبر قامة شعرية عالية، وضع في كتابه «الكوميديا الإلهية» النبي مع ابن عمه وصهره علي في الدائرة الثامنة من الجحيم، الدائرة ما قبل الأخيرة التي تفصله عن المزورين والخونة أمثال يهوذا وبروتوس وكاسيوس قبل الوصول إلى عمق الجحيم حيث الشيطان نفسه. في كتابات جان داماسكين (المتوفى عام ٧٤٩)، المتحدّر من أسرة خلقيدونية بيزنطية الذي شغل منصباً وزارياً مهماً في إدارة الخليفة الأموي عبد الملك وابنه الوليد، لا يتبدّى الإسلام في مذكراته التي كتبها بعد تقاعده في دير في فلسطين كديانة جديدة بل كنوع من الهرطقة. أثرت هذه الكتابات بقوة في دانتي الذي وضع محمداً في الجحيم. وفي الكثير من اللوحات والمشهديات التي ظهرت في الكنائس الإيطالية، كتلك التي تظهر في بازيليك سان بيترونيو في بولونيا، والمنسوبة لجيوفاني دو مودينا أحد رسّامي القرن الخامس عشر، يظهر محمد عارياً وموثقاً إلى صخرة في الجحيم حيث يظهر شيطان مجنح ذو قرنين يحاول أن ينتزع رأسه. لقد كان الغرب يرمي بكل خياله الوهمي على نبي الإسلام الذي يعتبره خطراً وجودياً عليه. استمر الأمر طويلاً ليصبح التعامل أكثر واقعية كما أسلفت في عصر الأنوار، وليصبح محمد بطلاً رومانسياً مع الرومانسيين الفرنسيين. لقد جعل منه فيكتور هوغو أيضاً رجلاً بسيطاً متواضعاً، يُصلح شصَّ نعله، وتاجراً حاذقاً يجوب الصحراء بقوافل خديجة، كما تصوره السيرة تماماً. بعض الكتاب من الجيل المتقدم، أمثال سلمان رشدي، كانوا يسوون حساباته عبر أعمالهم الأدبية التي تتناول صورة محمد مع تربيتهم الدينية الأولى: أُحِب هذا التنوع في تناول الموضوع قديماً وحديثاً، ولذلك جعلته مادة لكتابي «الحياة الثانية لمحمد».

اليوم، جلال الدين الرومي مثلاً هو شخصية جذابة في الكثير من الروايات التي تكتب في الغرب تحديداً، أولها وليس آخرها رواية «قواعد العشق الأربعون» لمواطنتك إليف شافاق، هل أثار الإسلام الصوفي اهتمامك أيضاً، وهل تظن أنه النسخة الإسلامية التي يمكن أن يقبل بها الغرب اليوم، في أطروحة مضادة لصراع الحضارات التي بشر بها صامويل هنتنغتون، والتي تضع الإسلام بكل مشروعه وأدبياته في وجه الحضارة الغربية؟
ـــ نعم، يكسب جلال الدين الرومي معجبين ومريدين أكثر فأكثر في الغرب، ومن ضمنه أميركا. النسخة الصوفية من الإسلام يتم التعامل معها اليوم كأنها النسخة الأكثر انفتاحاً من الإسلام السني. على الصعيد الشخصي، لطالما أثار هذا الجانب الصوفي اهتمامي، إذ كتبت مؤلفاً عنوانه «سبعة دراويش» خصصت فيه فصلاً كاملاً لجلال الدين الرومي ولقائه بشمس التبريزي. الرومي كان أيضاً شاعراً كبيراً قبل أن يكون صوفياً. لقد كان تركياً، وإن كان ينطق بالفارسية، وقد أسس لهذه الطائفة من الدراويش الراقصين في قونية في قلب الهضبة الأناضولية. هذا تجلٍّ كبير للصوفية التي عاشت في القرن الثالث عشر وتم اعتبارها من قبل الغرب كنوع من الأفلاطونية الجديدة. لقد كان هناك البكتاشية، وهي الفرع الثاني للصوفية بعد المولوية، وهي طائفة صوفية أبصرت النور في الأناضول أيضاً. في كتابي «سبعة دراويش»، اهتممت كثيراً بجلال الدين الذي ألهم هذين التيارين. لقد جاء التيار البكتاشي من خراسان، وأسرة الرومي تتحدر من بلخ، من المنطقة ذاتها في شرق إيران. لقد اهتممت بقصص هؤلاء الدراويش والجغرافيا التي عاشوا فيها، أي تلك الهضاب الممتدة بلا نهاية في الأناضول، وتغيب عنها الجبال، وكذلك بما أحضره هؤلاء المتصوفة من تقاليد من آسيا الوسطى ومن خراسان وغيرهما، إضافة إلى الجهود العظيمة التي قام بها مستشرقون وعلماء متخصّصون في الإسلام، أمثال مكسيم رودنسون، وجاك بيرك الذي حضرتُ محاضرته العظيمة حول ترجمة القرآن في «كوليج دو فرانس» في بداية اهتمامي بالتاريخ الإسلامي، وعبد الوهاب المؤدب الذي فقدناه منذ فترة وجيزة في كتابه العظيم «مرض الإسلام». لهؤلاء وغيرهم يعود الفضل في ردم سوء الفهم ومحاربة الفرضيات التي تضع الإسلام والغرب على طرفي نقيض.

يمكن للخيال أن يتسلل إلى العالم الداخلي للشخصية المحمدية، ليجعله فرداً يتطور وسط بيئة معينة


لننتقل قليلاً إلى السياسة، حول الجدل الذي يعلو ويخفت بخصوص دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. أنت من أكثر المتحمسين لهذا الانضمام، الذي يبدو أن دونه عقبات شتى، أولها العقبة الثقافية ورهاب الإسلام الذي تجاهر به رموز أوروبية كثيرة، كفاليري جيسكار ديستان رئيس فرنسا السابق، أو نيكولا ساركوزي. ماذا تقول بخصوص هذه القضية؟
ـ نعم أنا من المتحمسين لدخول تركيا الاتحاد الأوروبي، للأسف تبتعد تركيا يوماً بعد آخر عن القيم الديمقراطية الأوروبية، لكنّ الأوروبيين أيضاً أجهروا برفضهم لهذه العضوية خلال المحادثات حول القضية التي انطلقت في تشرين الأول (اكتوبر) ٢٠٠٥. رغم أن بلادي ستبقى مرشّحة دائمة لهذه العضوية، فإنّ انتهاك القيم الديمقراطية الغربية في تركيا، وخاصة في ما يتعلق بحرية التعبير والعلمانية، يسهم شيئاً فشيئاً في تحويل تركيا إلى بلد سلطوي، مع محاكمة الصحافيين وغياب دولة القانون، والعدالة التي أصبحت مسيّسة أكثر فأكثر، ووسائل الإعلام التي تتحكم بها الحكومة. هكذا، فإن انضمام تركيا لم يعد قضية الساعة، وهو أمر يتحمل مسؤوليته الطرفان. كانت هناك أحكام مُسبقة من قِبل الأوروبيين حين كانت تركيا أقرب من العضوية. لقد وضعت كتاباً حينها بعنوان «تركيا، فكرة جديدة في أوروبا» (٢٠٠٩) حتى يفهم الفرنسيون تركيا بشكل أفضل ويعرفوا الحجج التي يعلل بواسطتها الأتراك رغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. والآن أنا في صدد وضع كتاب جديد عنوانه «تركيا الحرة أكتُب اسمكِ»، وهو كتاب سياسي يسائل تركيا اليوم والمنحى التسلطي الذي يلون مناخها السياسي.

لقد عايشتَ فترة التحرر من الاستعمار وأدبياتها في كل أصقاع الأرض، ونظرة الغرب المتفوّق إلى العالم الثالث. هل هناك من أدب للعالم الأول وأدب للعالم الثالث مثلاً؟ وهل هناك قطب وأطراف في الأدب كما في التقنية؟ وهل من شروط كي يقبل الأوروبيون عضواً جديداً في ناديهم الحضاري والثقافي؟
ـ الأدب وهو العالم الذي أنتمي إليه، يجب أن يكون كونياً خاصة في زمن العولمة، لكن بخصوص التكنولوجيا، ليس الأمر سيّاناً. أنا أنتمي لجيل عايش الخطاب حول العالم الثالث. كنت في العشرين من العمر مناضلاً في أقصى اليسار وأسمع هذا المصطلح مراراً وتكراراً. اليوم نتكلم عن اقتصاد السوق والثورة الصناعية والتطور، والأمر لا يعني أن البلاد كلها هي على المستوى ذاته من التطور. حول الشق الأخير من سؤالك، تحتلّ تركيا بالنسبة إلى أوروبا مكاناً استثنائياً: لو عدنا إلى الإمبراطورية العثمانية، نحن مضطرون أن نلاحظ أن تاريخ هذه الإمبراطورية قد حدثت فصوله في أوروبا تحديداً، وقبل تفكيكها من قِبل الغرب، كان يتم اعتبار الإمبراطورية ضمن نادي الأمم الأوروبية. يجب إذن، ومن أجل أخذ التاريخ في الاعتبار، أن نأخذ هذه الحقيقة في الحسبان. جيسكار ديستان مثلاً علّل رفضه لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بأنّ تركيا تقع جغرافياً ضمن النطاق الآسيوي. لا يمكننا تجاهل أن أنقرة عاصمة تركيا. هي على نفس خط الطول من نيقوسيا، التي هي عاصمة لدولة أوروبية! إذن الجغرافيا هي أمر نسبي قليلاً، وتركيا التي تحتل حيزاً ما بين ـ بين، أظن أن مكانها السياسي المناسب هو في أوروبا لا في آسيا.

مناضل قديم في أقصى صفوف اليسار، وداعية لدخول تركيا في أوروبا، ومع ذلك مسحور بصورة محمد منذ الطفولة. كأن نديم غورسيل «بيت بمنازل كثيرة»، كما يقول كمال الصليبي، أحد أهم المؤرخين اللبنانيين والمشارقة.
ـ نعم، كما قلت لك في بداية المقابلة، سحرتني شخصية محمد الأسطورية. إذ أننا نعرف القليل عن شخصية محمد التاريخية التي خالطها كمّ كبير من الأساطير والمرويات. تمت كتابة سيرته بعد قرنين من الزمن في سيرة ابن اسحاق (المتوفى عام 768 م) والتي عرفناها عن طريق سيرة ابن هشام (المتوفى عام ٨٣٣) ، إنه شخصية كبيرة في التاريخ الإسلامي أسست لديانة، وأدخلت شعبها في التاريخ. ومن ثم حتّى ولو تضمن القرآن سورة تدين الشعراء، فإنّه يبدو بالنسبة لي محتوياً على شعرية مثيرة للإعجاب. في طفولتي، كنت مسحوراً بجمال الترتيل حين كان جدي يتلو سوره ولو لم أفهمها العربية. كان الأمر مدعاة للحلم، لكن كان هناك التأثير الغريب للغة الذي كنت أجده شعرياً. أما الاهتمام بالمعنى، فقد جاء متأخراً. وهذا ما كتبته في «بنات الله». جدي الذي كان محلفاً قضائياً، تم تعيينه ضمن اللواء الحجازي الذي دافع عن البقع المقدسة في مكة والمدينة خلال الحرب الأولى. رافقني هذا الاهتمام بنبي الإسلام منذ الطفولة المبكرة إذن. وأظن أنّه جاء الوقت لأكتب هذا الشغف والتتبع في «الحياة الثانية لمحمد».

ماذا عن قرائك في العالم العربي؟ هل من رسالة خاصة إليهم؟ هل من مشروع لترجمة «الحياة الثانية لمحمد» إلى العربية؟
لقد تُرجمت العديد من أعمالي إلى العربية مثل «بنات الله» التي صدرت عن «دار الفارابي» التي ستتولى ترجمة عملي الجديد حول محمد. في مصر، تمت ترجمة كتابي «الملاك الأحمر» الذي يروي سيرة الشاعر الشيوعي ناظم حكمت، الذي ساءلت عبره كلّ تاريخ القرن العشرين. أقول لقرّائي العرب ألّا يصدقوا الدوغمائيات بأسرها، وأن يستعملوا حسّهم النقدي، وأن يتعاملوا بدرجة أقل من القدسية مع ما يقوله «الريّس»، كل رئيس أو زعيم سياسي في بلادهم.