ولد في نيويورك قبل 86 عاماً. درّس الأدب الإنكليزي، وفعل أشياء كثيرة في حياته، يبقى أهمها كتابة «لاعب النرد». ربما لا يوازي كتابة هذا العمل أهمية، سوى علاقته الحميمية مع النرد، مِثل علاقة النرد بالمصادفة. وفي سيرته أيضاً، اختار كوروفت أن يكون لوك راينهارت، بعد رمية صائبة. الكاتب الأميركي أنهى أخيراً روايته «كرات الشَعر ونهاية الحضارة» بينما انطلقت ورشة في باريس لترجمة أعماله الكاملة إلى الفرنسية في الأشهر والسنوات المقبلة.القراءة الأولى تدلّ على أننا نتعامل مع طبيب نفسي مجنون. وغالباً سيتهم لوك راينهارت بأنه سادي يحاول لفت الأنظار. مجرد شخص آخر يحاول السخرية من علم النفس، فيقرر اتخاذ قرارته بعد استشارة النرد، خوفاً أو كسلاً. المفارقة، أن صدور كتابه الأهم «لاعب النرد» |(1971)، كان في زمن الإعجاب بالسيكولوجيا ومديحها، ولم يكن زمناً ضدّها. نتحدث عن أول السبيعينيات في الولايات المتحدة الأميركية. وللمناسبة، الانطباع الأول عن الكاتب الأميركي سيكون أنه أميركي وليس أوروبياً. هذه هي الفكرة الوحيدة التي يمكنها النجاة من الانطباعات الأولى. راينهارت لا يعترض على كونه أميركياً بأي حال، الاعتراض مسألة شائكة أيضاً في قصصه. أن تكون أميركياً هي مسألة معقدة، وربما لذلك، في السنوات الأولى لصدور الكتاب، لاقى الأخير نجاحاً في إنكلترا، السويد، وإسبانيا. ما يأتي به راينهارت عن النرد هو التالي: ليس الأمر بهذه السهولة: الحرية والروح والإدراك والاعتراف... وينبغي التوقف عن الإملاء. سريعاً ما ستحضر الفلسفة بثِقلها في «لاعب النرد» وفي جميع أعماله. سيحضر الآخر في الذات كشاهدٍ عليها، وحده فقط يستطيع إكمالها. وسيحضر الانتماء في صيغ متعددة تتفاوت في درجة الالتباس. سيحضر النرد كموازٍ للأنا في بحثها غير المجدي عن طريق الصوت إلى الخارج. ما يميّز النرد أنه حاسم، وأن العدمية، بلا مسايرة، يمكن أن تكون منتجاً استهلاكياً يتجاوز الواقع، إن انتهى الحال بها إلى خلاصةٍ أكثر تفاهة: اليأس. بالنسبة إلى كثيرين، لن يكون هذا غريباً إن كان الكاتب يقضي حياته خلف تلفزيون، لكن ربما يبدو هذا فضفاضاً لهم، بما أنه عن رواية رجلٍ يقضي أيامه خلف النرد. ربما، قبل كل شيء، يجب التذكير بأنها أشبه بسيرة معالِج نفسي في نيويورك، أصيب بالملل. الفضل للأشباح في خيارات النرد، والفضل للاعب في الكتابة. لكن النقاش يبقى مفتوحاً طوال الرواية، وطوال سيرة راينهارت نفسه، عن حمولة روايته: الحريّة حتى نهايتها، أم العدمية؟ أسهل ما يمكن تخيّله عن اللعِب بالنرد هو الضجر. وهذا حسب راينهارت، وإن كان لا يقول ذلك صراحة في رواياته، أسهل ما يمكن أن يُتخيّل عن الوعي، الذات، الروح، وعن كل المفردات الصلبة التي تدخل من الأذنين، ولكنها بلا شكٍ تخرج من مكانٍ آخر. وهذا أصعب ما يمكن تخيّله أيضاً، مِثل الجملة التي يفتتح بها المجنون الأميركي روايته: «أي شخص يمكن أن يكون أي شخص». أليس تفسير الذات أدنى منها دائماً، والحرية أوضح الاعترافات على عجز الأنا أمام العدم؟

الموت السعيد

في 2012، تلقى أصدقاء لوك راينهارت رسالة من زوجته، تقول: «بمنتهى السعادة نعلمكم أن لوك راينهارت فارق الحياة. لقد كانت رغبته أن يخبركم بهذا في أقرب وقت ممكن، حتى لا تشعروا بالانزعاج من أنه لم يكن يجيب على بريده الالكتروني». وعندما أصيب محبوه بالحزن، اعتذر عن تصرفه، وحمّل المسؤولية للوك راينهارت! بالنسبة له، كان شيئاً مدهشاً أن يدعي الموت، أن يختفي، رغم أنه كان ما زال موجوداً.


حتى اليوم، ما زال بعض «هواة» الأنتروبولوجيا ومكتشفيها يستعملون العدم كشتيمة. وقد يقرأ دعاة العقلانية «لاعب النرد» بسذاجةٍ لا يوزايها شيء إلا سذاجة أبطال راينهارت نفسه. لكن في نهاية الأمر، لاعب النرد ليس تجسيداً لأحد ابتذالات العدم اللغوية، إنما هو ذلك الكائن الذي يتحدث عنه هايدغر، حيث لا يعرف هذا الكائن أنه هو ذلك الكائن هناك. أن ينتمي إلى العدم لأن الكون ليس كافياً ليدل على الاختلافات الكامنة فيه. الكون وحقيقة الكائن لن يتقاطعا إلا عندما يصير الاختلاف ساطعاً. وإن كان الجانب الآخر، أو ما يجوز تسميته بمرحلة ما بعد النرد، هو قضاء صلف يشبه تعريف هايدغر للميتافيزقيا، حيث لا مكان للأسئلة عن الاختلاف رغم بنيان الاختلاف الواضح، فإن الحديث عن المصادفة والصدفة ليس اعتباطياً. إنه في صلب النقاش الأنطولوجي عن الحرية والوجودية. وإن كانت المفردة الأخيرة قد صارت ممجوجة لطفرة استعمالها في غير مكانها، فإن العودة إلى ذلك النهار الهادئ، من عام 1971، عندما مدّ جورج كوكروفت يده إلى جيبه وأخرج النرد، قد تعيد لحظة إلى الأسئلة الهائلة رونقها البسيط. ما هو أهم من الأسئلة أن «لاعب النرد» يقدّم إجابة لمشكلة الحرية. يقدّم بديلاً معقولاً عن الوهم وعن السائد: الإرادة.
ليست العودة إلى ماضي راينهارت عادلة، رغم أن هذا متاح. والده انتحر بعد إصابته بالسرطان ولا علاقة هذا بكتابهِ. ربما والده ضرب نرداً هو الآخر. صورته في الحاضر لا تضعه في موقف يختلف عن الكتاب العاديين، فهو يقيم على مرتفع، ويعيش مع أشجاره. إنه يعالج نفسه بالكتابة وبالتوقف عنها، ويطوّع النصوص بسيلٍ من المصادفات. النرد هو تسمية للخيارات التي لا يجب النطق بها. يحب راينهارت أن يكون كائناً من الفضاء، حسب الصورة التي يرسمها الاستهلاك عن الكائن الفضائي. لكنه في نهاية الأمر ليس كائناً فضائياً. كوكروفت أهدأ من راينهارت المتمرد. إنه رجلٌ آخر قرأ دوستويفسكي وتأثر به. وقد كانت أولى محاولاته بالكتابة لا تقل وجوديةً عن أشهر رواياته، إذ كتب عن شخص يحاول الحصول على علاجٍ نفسي، من مشكلة كبيرة. كان شخصاً يظن نفسه المسيح. وكما هو واضح، فإن راينهارت لا يتحدث عن المسيح اللاهوتي، إنما عن المسيح الموجود داخل مكانٍ عميق في الأنا. ويبدو أن هذا النوع لا يمكن طرده إلا بواسطة نرد.
في محاولته للتملص من أناه، يقول محمود درويش عن نفسه إنه لاعب نرد. ويربط ذلك بالربح حيناً والخسارة حيناً آخر، ما يعني أن لعبته تختلف اختلافاً جذرياً مع لعبة راينهارت. ذلك لأن الأخير يربح دائماً ويخسر دائماً. أما عن علاقة قصيدة الشاعر الفلسطيني المباشرة بالرواية الأصلية، فذلك يحتاج إلى تدقيق، وإن كان الخيار الأقرب إلى المنطق، هو أن يكون ذلك بفِعل المصادفة. كيف لا يكون ذلك ممكناً، والنرد في أساسه احتفال مؤقت بالمصادفة، تتبعه سلسلة من الاحتفالات المؤقتة بالمصادفات الأخرى. وكما في الرواية، كما في «Elle» لهيرهوفين: المصادفة هي نواة العالم والوقوف بوجهها ليس مكلفاً وحسب، إنما هو وقوف خلف الحقيقة. النرد صيرورة. الأشخاص الذين تلتقي بهم. الملابس التي تختارها في الصباح. الإيماءة. الشتيمة. النرد شيء يحدث بداخلك. ذلك الانتقال من الأنا إلى الخارج. النرد بوصفه مساحةً للمصادفة هو زورق يطفو على محيط العلوم الاختبارية الهائج. محاولة خروج من زنزانة القرارات المسبقة. النرد دعوة لتضييق الخيارات الموجودة، فالخيارات الموجودة ستبقى موجودة، والخيارات غير الموجودة، ستبقى غير موجودة. وهذا ينسحب على «لاعب النرد». وبينما تلعب، وبينما تخشى الاستسلام للنرد على حساب العقل، تذكر أن النرد هو الشيء الأخير الذي يعني أنك لست رجلاً آلياً. لكن قبل أي محاولة ـ لا تخلو من خِفة الغوغل ــ لإطلاق صفة الوجودية على راينهارت، ربما من الأجدر التعرّف إلى مقولة هولدرلين، التي تبدو كمظلةٍ لنزوات الأميركي الدنئية: حيثما يكون الخطر/ يكبر المنقذ أيضاً. عندها، يمكنك أن ترمي النرد بسلام، مِثل أي أحدٍ آخر.



سيرة
ولد جورج باورز كوكروفت أو «لوك راينهارت» في ألباني في الولايات المتحدة. والده المهندس، أصيب بالسرطان، وأقدم على الانتحار عندما كان ابنه في التاسعة. جايمس، شقيق جورج، مؤرخ متخصص في ثورات أميركا الجنوبية، خصوصاً المكسيك. أما جورج نفسه، فهو بروفسور في الأدب، علّم في جامعات في الولايات المتحدة والمكسيك ومايوركا في إسبانيا حيث أقام مع زوجته عام 1969. درس أيضاً الصوفية وفلسفة الـ zen ورزق بثلاثة أطفال، واحد منهم مصاب بالفصام. انخرط في حياة بوهيمية، فعاش هائماً كالهيبيز وأمضى جزءاً من حياته على متن مركب. تجربة استهلم منها روايته «أوديسة الهائِم» في الثمانينات حيث أسرة تركب البحر هرباً من كارثة نووية. طبعاً، تبقى شهرة كوكروفت عائدة إلى روايته «لاعب النرد» (1971) التي قوبلت بتجاهل في أميركا في البدء قبل أن تأتي شهرتها من أوروبا. أعماله ما زالت تحقق حتى اليوم مبيعات تصل إلى المليونين في العالم. استحالت «لاعب النرد» رمزاً للثقافة الشعبية، خصوصاً الروك. أما روايته الأخيرة «اجتياح» (2016) التي ترجمت أخيراً إلى لغة موليير، فتسخر من الحزب الجمهوري الأميركي، من خلال قصة كائنات فضائية تهبط على أميركا بحثاً عن التسلية، فإذا بها تكشف جنون النظام العسكري والاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة. وقبلها، وجه كوكروفت سهامه إلى أميركا في روايته «المسيح يتلبّس جورج» (2013). على خطى «لاعب النرد»، تقدم الرواية رؤية ساخرة للفوضى التي أنتجتها الحروب والانهيارات الاقتصادية. الأسلوب الطريف والساخر في مقاربات كوكروفت لقضايا سياسية واقتصادية واجتماعية جادة، هو نمط حياة. هو الذي يعتبر أنّ «التعاطي الجدي مع الحياة هو مرض أساسي يصيب الإنسان. اللعب والتسلية هما ما ينبغي للحياة البشرية أن تكون عليه. إلا أنني أريد توجيه نقدي للثقافة الأميركية القائمة على الاستهلاك، والعسكرة، والعنف، لأنها مسؤولة عن تعاسة البشر. كبوذي مثالي، تكمن تقنيتي في النقد، ثم الاسترخاء باسِماً. لا أولي أهمية ولا أعبأ بنتيجة هذا النقد».