ترجمة: أحمد محسنخلال الشهر الأول لم يكن للنرد سوى تأثير صغير على حياتي. كنت أستعمله لاختيار طرق صرف الوقت الفارغ، لاختيار بدائل عن توقف «الأنا» تحديداً عن المبالاة. اختار النرد أن أشاهد «أنا وليل» مسرحية هارولد بنتر، بدلاً من المسرحية التي فازت بجائزة النقاد، أو أن أقرأ الكتاب «X» مختاراً بعشوائية من مجموعة ضخمة، وأن أتوقف عن كتابة كتابي وأبدأ مقالاً بعنوان: «أسباب فشل التحليل النفسي». وأن أشتري منتجاً صناعياً بدلاً آخر، أو أن لا أذهب إلى مؤتمر في شيكاغو. اختار النرد أن أمارس الحب مع زوجتي، حسب وضعية الكاماسوترا رقم 23، رقم 52، رقم 8، إلخ، أن أشاهد أرلين، أن لا أشاهد أرلين، إلخ...
في البداية، حدد النرد أشياء ليست في غاية الأهمية. معظم خياراتي لم تبتعد كثيراً عن حاسة الذوق لديّ وعن شخصيتي. اهتممت بمبدئين اثنين. أولاً: أن لا أدخل أي احتمال لا نية لدي لتنفيذه. ثانياً، يجب تنفيذ ما يشير إليه النرد بدون أي مماحكة. يكمن سر الحياة مع النرد في أن تكون مطيعاً لخيوطهِ. وبعد ستة أسابيع من الغرق في أرلين، اتخذت قراراً حاسماً. بدأت تجربة العلاج بالنرد. مثلاً، بدأت اخترع احتمالات تتيح لي التعليق بعدائية أمام المريض كلما ظهرت أمامي رؤية ما، أو أن أعيد دراسة نظريات تقليدية في التحليل والمنهج وتطبيقها لساعات معينة مع المريض. قررت أن أضيف احتمالاً يجيز لي أن أصير واعظاً للمرضى.
في النهاية، بدأت أدخل احتمالاً يسمح لي بأن أمنح مرضاي تمارين سيكولوجية محددة كما يمنح المدرب الرياضيين التمارين الفيزيائية. تمارين من هذا النوع: الفتاة الخجولة يجب أن تواعد شخصاً يعمل في التجميل، البلطجي والعدائي يجب أن يتعارك مع أحد أقوى منه وأن يخسر عمداً، المنعزل كالمطحون في استديو يجب أن يشاهد 5 أفلام. يمكن أيضاً أن يكون التمرين بالذهاب إلى الجسر والرقص، على الأقل لخمس ساعات في الأسبوع. معظم التمارين المفيدة تشكل خرقاً لقواعد السلوك المعتادة في الطب النفسي. بإخبار المرضى ما يتوجب عليهم فعله، أصير مسؤولاً من الناحية القانونية عن أي عواقب مرضية قد تحدث. وبما أننا نتعامل مع أشخاص عصبيين، فإن الأمر في نهاية المطاف سينتج عواقب مرضية، وهذا يعني أن إعطاءهم هذه التمارين سينتج المشاكل. كان هذا يعني، في الواقع، أني أضع مصيري المهني على المحك، وهي فكرة لسببٍ ما وجدتها منعشة. كنت أشبه بطبيب نفسي محترف، يضع حزاماً رياضياً حول خصره، ويقابل نفسه، أي أتواجه مع نفسي داخل هذا الحزام وجهاً لوجه.
في الأيام الأولى للنرد، سمح لي الأخير بأن أعبّر عن مشاعري الخاصة تجاه المرضى، وهذا يكسر قاعدة أساسية في العلاج النفسي. «لا تصدر الأحكام». هكذا بدأت أدين علانيةً كل تفصيل رث وصغير يدل على الضعف أجده في مرضاي وفي زلاتهم. عفريت كبير من الرب، كان هذا ممتعاً. عندما تتذكر أني ولأربع سنوات كنت أتصرف كالقديس، أتفهم، أسامح وأقبل جميع أشكال الحماقة الإنسانية، الفظاعة واللا منطق، وأني كنت أقمع كل الإشارات الطبيعية الحية في داخلي، يمكنك أن تتخيّل الفرح الذي عرفته عندما أشار النرد إلي بأن أقول لمرضاي إنهم ساديون، أغبياء، حقراء، عاهرون، جبناء، وفي داخلهم تشوه. الفرح، وجدت جزيرةً أخرى من الفرح.
لم يبدُ أن مرضاي وزملائي تفهموا القواعد الجديدة. بدأت سمعتي بالانحدار مُذاك، وازدادت سُمعتي سوءاً. وكان البروفسور الذي عرفته في جامعة «يال» أورفيل بوغلز أول مسبب للمشاكل. كان شخصاً ضخماً بأسنانٍ ناتئة وعينين مملتين. وخلال ستة أشهر، كان يزورني على نحوٍ متقطع لأنه يواجه مشكلة تكمن في عدم قدرته على الكتابة. خلال ثلاث سنوات، لم يستطع أن يكتب شيئاً، سوى أن يوّقع اسمه، ولكي يستعيد سمعته الأكاديمية كمحاضر اضطر إلى التفتيش في أوراق كتبها عندما كان طالباً في السنة الثانية بولاية مشيغن، حيث يقوم بتعديلات طفيفة على الأوراق القديمة وينشرها كمقالات في الفصليات. وبما ما أن الجميع غالباً سيتوقفون عن القراءة في الفقرة الثانية، لم يُكتشف أمره. في الواقع، قائمة منشوراته المدهشة تلقت هذا التقييم قبل أن يزورني بعامٍ واحد.
بدون أي حماس عمِلت على وجهة نظره الملتبسة تجاه والده، وعلى مِثليته غير المعلنة، وعلى صورته الخاطئة عن نفسه. ولكن جاءت قوة الواقع مجدداً من النرد لتملي عليّ ما أفعله، فانفجرت ذات يوم.
بوغلز، قلت له فور وصوله ذات صباح (كنت أناديه بروفسور بوغلز). قلت له: بوغلز، لماذا لا نوقف هذا الهراء، ونذهب إلى صلب الموضوع؟ لماذا لا تتخذ قراراً واعياً بأن تتوقف عن الكتابة ويكون هذا علنياً؟
كان بالكاد قد جلس ولم يقل أي كلمة بعد. ارتجف مثل ورقة كبيرة من أوراق دوار الشمس، بعد تنهيدة العاصفة الأولى.
- عذراً؟
- لماذا تحاول الكتابة؟
- إنها متعة خاصة وقديمة.
- هراء.
جلس ونظر إلى الباب كما لو أنه ينتظر مجيء باتمان في أي لحظة لكي يخلصه.
- لم آت إليك لأني أعاني من مرض عصبي، إنما لأشفى من مشكلة بسيطة وهي عدم قدرتي على الكتابة. الآن...
- أنت مريض أتى إلي مصاباً بالرشح، ولكنه يموت بالسرطان.
- الآن لأنك غير قادر على معالجة مشكلة عدم قدرتي على الكتابة تحاول إقناعي بأن لا أكتب. أرى هذا...
- لا تجد هذا مريحاً. ولكن تخيّل المرح إذا استسلمت وتوقفت عن محاولة النشر؟ هل نظرت إلى شجرة في السنوات السِت الفائتة؟
- رأيت الكثير من الأشجار. أريد أن أنشر، وليست لدي أي فكرة عما تحاول فعله هذا الصباح.
- أنزع القناع. بوغلز، ألعب لعبة المعالج النفسي معك، ندعي أننا نبحث عن الأحداث الكبيرة، مثل الإيلاج، ومثل استثمار الطاقة العاطفية في شخص أو فكرة أو شيء ما، ومثل الخيارات الجنسية، والآن قررت أنه يمكن أن العلاج يبدأ من تخليك عن المظهر الزائف، هذا البراز، بوغلز هذا...
- ليست لدي رغبة أن أبدأ.
- أعرف ذلك. لا أحد منّا يرغب ذلك. لكنك تدفع لي 50 دولاراً في الساعة، وأنا أحاول أن أعطيك مقابلاً عادلاً. في البداية، أريدك أن تستقيل من الجامعة وأن تخبر العميد وهيئة الأمناء بذلك، ثم أن تعلن أنك ذاهب إلى أفريقيا لإعادة التأسيس الرابط مع أصولك الحيوانية.
- هذا كلام فارغ!
- بالطبع إنه كذلك. هذه هي الفكرة. فكّر بالشهرة التي ستحصل عليها: «بروفسور من جامعة يال يستقيل بحثاً عن الحقيقة». سينال هذا أهمية أكبر بكثير من مقالك الأخير في فصلية «رود آيلاند» عن «هنري جايمس وخدمة الباص في لندن».
- لكن لماذا أفريقيا؟
- لأن الأمر لا يتعلق بالأدب، والنجاح الأكاديمي ودرجتك كبروفسور. لن يمكنك أن توهم نفسك بأنك تعمل هناك على جمع مواد متعلقة بمقالٍ تكتبه. اقضِ عاماً في أنغولا، حاول أن تلتحق بجماعة ثورية، أو بجماعة مضادة للثورة، اقتل بعض الناس، تعامل مع المخدرات الطبيعية بألفة، لا تحارب الغواية مهما كان مصدرها: ذكر، أنثى، حيوان، خضار، أي عامل طبيعي. بعد ذلك، لن تشعر أنك تريد الكتابة عن هنري جايمس للفصليات. سأحاول مساعدتك.
كان يجلس على حافة الكنبة ويحدق بي كما لو أن كرامته اهتزت. ثم قال: «لماذا تريدني أن أتوقف عن الرغبة بالكتابة؟»
- لأنك يا بوغلز، كما أنت الآن، ومنذ 43 عاماً، عبارة عن جثة ميتة. بوضوح تام. لا أحاول أن أبدو لاذعاً، لكن هذا واضح تماماً. في قرارة نفسك أنت تعلم هذا، زملاؤك يعرفون هذا أيضاً، الجميع يعرف، وأنا أعرف أن الجميع يعرف. علينا أن نغيّرك تماماً لكي أستحق ما تدفعه لي. في العادة كنت سأنصحك بإقامة علاقة مع طالبة من طالباتك، لكن بشخصيتك هذه، الطالبات اللواتي سيقبلن بك، سيكن أسوأ منك، ولن يكون هذا مفيداً.
نهض بوغلز من مكانه لكني تابعت بهدوء:
- ما تحتاجه حقاً هو تجربة جديدة وقاسية، فيها جوع ومعاناة وخوف وجنس. وكلما جرّبت هذه المشاعر الجديدة، كلما صار لديك أمل بحدوث اختراق. حتى ذلك الوقت لن يتغيّر أي شيء.
وضع بوغلز العجوز معطفه واتجه إلى الباب راسماً على وجهه تكشيرةً أظهرت أسنانه، وخاطبني:
- أتمنى لك يوماً سعيداً د. راينهارت، أراك لاحقاً في حالٍ أفضل.
- أتمنى لك يوماً سعيداً بدوري، بوغلز. آمل أن يكون باستطاعتي أن أتمنى الأمر نفسه لك، لكن ذلك لن يحدث إن لم يقبض عليك المتمردون الأنغوليون، أو أن تمرض في الأدغال لثمانية أشهر، وتصير تاجراً بالممنوعات، أخشى أنه لا يوجد أمل.
نهضت من خلف مكتبي لكي أصافحه، ولكنه اختفى خلف الباب. بعد ستة أيام، تسلمت رسالة مهذبة من رئيس المؤسسة الأميركية لممارسي الطب النفسي أشار فيها إلى أن أحد مرضاي، د. أورفيل بوغلز من «يال»، عانى من هلوسات وبارانويا تجاهي وبعث رسالة مطولة، لا تخلو من البذاءة، لكنها مكتوبة بصيغة أدبية لافتة، كشكوى للمؤسسة عن سلوكي. بدوري، بعثت رسالة إلى الرئيس فينستين شكرته فيها لتفهمه، ورسالة أخرى إلى بوغلز أخبرته فيها أن طول رسالته إلى المؤسسة الأميركية لممارسي الطب النفسي تبرهن أنه بدأ يتخلص من مشكلة عدم قدرته على الكتابة. إلى ذلك، منحته الإذن بأن يحاول نشر رسالته هذه في نشرة «جنوب داكوتا» الفصلية.

1 - العنوان الأصلي هو The Dice Man. الرواية صدرت أول مرة لجورج كوكفورت، باسم مستعار هو لوك راينهارت في نيويورك، عام 1971