وهنا لا يخفي مانغويل تأثّره بمحاضرة فالتر بنيامين الشهيرة «فَلْفشة مكتبتي»، بل يبدو عامداً إلى قلب جوّ محاضرة بنيامين وعنوانها، ليصبح التوضيب هنا هو المحور بدلاً من التفريغ أو الفلفشة، وليصبح «مزاج التطلّع» عند بنيامين «مزاج تفجّع» قاسٍ عند مانغويل. فالحديث هنا عن محاولة عبثيّة لتوضيب مكتبته الضخمة التي تربو على 35 ألف كتاب بعد انتقاله القسريّ من فرنسا إلى أميركا، وصولاً إلى تعيينه مديراً للمكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة في بوينس آيرس. الغياب هنا هو مصدر التفجّع، غياب الكتب من حيّزها المكانيّ على الرفوف ومحاولة تكريس حضور لها في حيّز زمانيّ يقوم على الذاكرة وحدها. ولكنّ المفارقة هي أنّ مزاج بنيامين المتطلّع لم يُفرد له فسحة زمنيّة طويلة قبل انتحاره المأساويّ هرباً من النازيّة عام 1940، بينما يبدو التفجّع في كتاب مانغويل راسخاً كما لو أنّه تغريدة بجعة تومئ إلى نهاية قريبة، قد لا تعني الوفاة بالضرورة، ولكنّها تضجّ بسوداويّة مرّة يضاعف مرورُ الزمن وطأَتها الثقيلة.
يصرّح مانغويل بين ثنايا الكتاب بعمره الذي ناهز السبعين، كأنّه اكتشف فجأة مرور هذه السنوات، أو ربما كانت مكتبته الفرنسيّة تلك التي عاش فيها عشرين عاماً هي حياته الفعليّة، فلمّا اقتُلعت من مكانها أحسّ بمكانها الفارغ داخله. يذكّرنا تذكّر العمر هنا بالناقد الأميركيّ هارولد بلوم الذي ينوي أن يكون كلّ كتاب جديد هو كتابه الأخير منذ عشرين عاماً، ليعمد أخيراً إلى تأليف كتابه المُنتظَر (الأخير؟) «ممسوساً بالذاكرة» الذي سيصدر في نيسان (أبريل) 2019. تبدو كل ذكرى لكتاب عند مانغويل كأنّها تذكار بزمنٍ مضى وانتهى. فالكتب وكلماتها التي تشيّد المدن كما بشّرنا في «مدينة الكلمات» هي ذاتها التي تؤشّر إلى الماضي لا المستقبل. وليس من المصادفة أن يكون تركيز مانغويل لا على مكتبته الفرنسيّة بذاتها، بل على سنيّ طفولته ومراهقته حيث يبدأ تكوينه الحياتيّ بتكوين مكتبته. أما المستقبل فمجهول بالمطلق لأنّه يخلو من تلك المكتبة، من تلك الحياة، من ذلك الشغف.
لا يخفي تأثّره بمحاضرة فالتر بنيامين الشهيرة «فَلْفشة مكتبتي»
لا يبدو مانغويل سعيداً بمنصبه الجديد، وهو الكاره الأكبر للمكتبات العامة التي تعني انتهاك الخصوصيّة بالضرورة، حيث لا يكتمل معنى الكتاب والمكتبة إلا بكونها حيّزاً شخصياً للمرء لا يقاسمه فيه أحد. أو ربما يبدو قبوله بمركز مدير المكتبة الوطنيّة بمثابة انغلاقة الصندوق الأخيرة على الكتب بعد توضيبها، حيث انتهت حياته الشخصيّة بنهاية مكتبته الشخصيّة وبدأت مرحلة الشيخوخة العامة. أو ربما كان تداعي ذكرياته عن مكتبته الضخمة بمثابة تداعٍ (تحطّم) حرفيّ لها، حيث لم تُفده شيئاً لو قارنّاها بمكتبة بورخيس الضئيلة. نمّى مانغويل مكتبته وعاش حياته متنقّلاً في الأمكنة والأمكنة، ثم استقرّ أخيراً كأيّ بيروقراطيّ عجوز آخر بعدما انهارت مكتبته، بينما كان بورخيس بمكتبته الشخصيّة الضئيلة هو المكتبة العامة بذاتها، حيث تتعايش الأزمنة والأمكنة بين الدفّتين. ربّما سنفهم الآن سبب قبول مانغويل المفاجئ لهذا المنصب، وهو الذي لم يكن أرجنتينياً صرفاً أبداً. هل هي «عودة» أخرى لمانغويل الشاب إلى كنف معلّمه ومكتبته؟ سيفيدنا فرويد هنا حتماً.