في ليلة ماطرة عندما تلفظ باريس «رائحة مزعجة تُذكّر بسرير شاسع غير مرتّب». ماذا لو انعطفنا دائماً إلى اليسار مروراً بحي سان جيرمان، تلك هي الطريقة الشائعة لبلوغ الفناء المركزي لبعض المتاهات، هل ستعيدنا هذه الحيلة إلى باريس القرن الثامن عشر، ونرى جان باتيست غرونوي، مسخ الروائح الهارب من رواية زوسكيند، هائماً في أحياء المدينة، مُتلقفاً «عطراً مثالياً». أم سيطالعنا جورج شحادة بجسده الضئيل، شارداً عبر زجاج النافذة، مشغولاً بتقطير الأفكار والحوادث الحياتية إلى مادة خالدة. على مخدة بيضاء، بين وردتين مطرزتين «يحلم ويمتزج بالهواء» ويومئ لنا: «هل التقينا من قبل؟» فنتذكر أننا نعرفه وأننا صافحناه مئات المرات.
جميع الذين التقوا جورج شحادة (1905- 1989) الذي مرت ذكرى ولادته الـ 110 في تشرين الثاني (نوفمبر الماضي)، وتمر ذكرى غيابه الـ 27 غداً، استسلموا لإغوائه وترك لقاؤهم به أثراً واضحاً في حياتهم (ونصوصهم) وخلّفوا شهادات راحت تشكّل مع الوقت أدباً مُستفيضاً. لكنّ كلّ تلك النصوص، على وفرتها، لن تستحيل «إنجيلاً مُعتمداً» يقدّم صورة كاملة عنه، كما هي الحال بالنسبة إلى الكتاب الضخم «جورج شحادة: شاعر الضفتين» كما أعده ألبير ديشي ودانيال باغليون وكلاهما ينتميان الى مؤسسة «إيماك» الفرنسية ناشرة الكتاب. هي ليست سيرة مقدسة للكاتب، بل حوارات مشتركة في الحبّ والصداقة والموت والله والمطبخ والنساء والسياسة ونبض القرى. بين «أشياء» الشاعر وملصقات أعماله المسرحية وصوره -التي تبدو خارجة من ألبوم عائلة بورجوازية- نشعر أن ثمة شيء منقوص ومبتور يتعذّر تحديده، يحوّل «الحوذي السرّي الآتي من بلاد ألف ليلة وليلة» إلى أسطورة اسكندنافية.
استطاع انتهاج هوية مسرحية وسط كل الزحام في التجريب والهدم والصمت الذي ساد المسرح الطليعي

شحادة المولود في مدينة الاسكندرية لأبوين لبنانيين، اتجه الى دراسة الحقوق في لبنان ثم إلى العاصمة الفرنسية حيث انخرط في الحياة الأدبية والمسرحية وكتب الشعر منضمّاً أولاً الى حلقة السرياليين من دون أن يعيقه أي سدّ جمالي أو إيديولوجي. واعتُبر من المعلمين الذين استطاعوا انتهاج هوية مسرحية وسط كل الزحام في التجريب والهدم والصمت الذي ساد المسرح الطليعي، ليحتل مقعده المتقدم إلى جانب يونيسكو وبيكيت وآداموف. حين سُئل عن السبب الذي جعله ينتقل من الشعر إلى المسرح، أجاب: «انطلقت من الشعر بالمطلق إلى الشعر المسرحي لأني رأيت أن على الشعر أن يخرج من قمقمه. الشعر لا يرضى بخصم له، إنه وحش ضارٍ كاسح يلذ له أن يقلب الأشياء رأساً على عقب، علينا أن نُدجّنه ونفرض عليه الاتصال بالأشياء البسيطة». ولاحقاً، سوف يكرّس عرض «سهرة الأمثال» (1951) على خشبة المسرح الوطني السويدي بإدارة إنغمار برغمان نجومية شحادة، وتليه «حكاية فاسكو» (1956) التي ستثير موجة من الاستياء بسبب طابعها السجالي المناهض للتسلح والأعمال العسكرية ويتلقى الكاتب برقية تحتوي على رقم هاتف مع رجاء الاتصال لأمور تهم المسرحية، فيخابر هذا الرقم قائلاً: «أنا جورج شحادة هل أنتم الراغبون في مقابلتي؟ٍ» ويجيبه صوت: «هنا مكتب دفن الموتى».
لعل جون روسلو عثر على التوصيف الصائب حين قال: «السريالية أثّرت على صاحب «قصائد» من دون أن تسلبه النغم الشفاف المُحكم الذي يقودنا إلى بلدان الطفولة». في الواقع، مؤسسو السريالية، أندريه بروتون، بول إيلوار، فيليب سوبو وحتى الذين جاؤوا من بعدهم، بنجامين بيريه وفيترال، كانوا جميعاً باريسيين، وأراغون -الذي ننساه دائماً- كتب أفضل مؤلفاته عن باريس (فلاح باريس). استلهم هؤلاء رؤياهم من المدينة ولعبوا لعبة الدعاية والشهرة وانحصرت علاقتهم بالطبيعة فيما استنبطوه من الكتابة الأوتوماتيكية وسرد الأحلام والتنويم المغناطيسي. في المقابل، أتى صوت شحادة ممزوجاً بنبرة الطبيعة، برموزها، وبما تستطيع هذه الطبيعة أن تحمله من ملحمية مخفّفة، ولعّله يتماسّ مع الأفق الشعري الألماني «الأقل ثقافوية» من نظيره الفرنسي، ما يسمح لنا بالتقاط صلة ما مع تجربة غوته أو هولدرلين وجورج تراكل النمساوي الذي كان يعاني من فصام وحالات هلوسة يغذّيها بالمخدرات المسكّنة. تناوَل الطبيعة بصفاء ذهني ووعي حاد يصل حدّ المرض، مستخدماً تلك الوحدات اللغوية أو المفردات التي تعمل كمفاتيح سرية وأقفال لدى شحادة، فحضور الشجر، الغابة، السماء والماء، له لهبٌ بارد، قريب وبعيد، منطفئ وشديد التوقّد، ويكاد يكون متوهَّماً من فرط حسيّته. نستطيع معاينة الحصيلة نفسها لدى شاعر آخر منسيّ، يُحسب على التعبيريين هو أرشتاتل، وقد ولد من أب ألماني وقتل في بداية الحرب الأولى، ويُقال إنه ذهب إلى الجبهة مع الجيش الألماني وهو يغني لامارسييز (النشيد الوطني الفرنسي).
صاحب «القصائد صفر، أو التلميذ سلطان» (1950) يؤمن أنه لا يوجد ما لا يُقال، إن الذي لا يقال هو في داخل اللغة، ينتج في داخلها وليس في منأى عن سيطرتها. كان يرغب بأن يرى بواسطة الكلمات، ويُقرنها بألم المغترب في جمل غير خاضعة لأي تهويلات عاطفية ولغوية: «قبل النوم/ كانت أخوات أمي/ يتكلمن بأصواتٍ منخفضةٍ إلى حدّ/ يصير فيه كل شيء ظلاًّ/ الوجوه والأصوات/ وساعة الجدار في صندوقها/ التي لم يعد لها رنين/ كان يكفي إشعال عود ثقاب/ حتى نلمح/ خالاتي جاثيات على ركبهنّ/ في قطرة من ذهب». نبرة الهزء الجارح التي غلفت أعماله المبكرة «قصائد» (1938) و«قصائد2» (1948)، تنزاح في مجموعة «إذا صادفت طائر الورشان» (1951) و«السابح بحب وحيد» (1985) لصالح أدوات لغوية، تُبطئ المشهد في حدود قصوى، وبالتالي تتيح الفرصة للقارئ كي يتأمل: «لنا يا حبيبتي/ عيون السجناء الزرقاء/ غير أن الأحلام تعبد جسدينا/ نتمدد كمثل سماء في الماء/ والكلام غيابنا الوحيد». قصائد ساكنة شبيهة بالزهور التي تتفتح على غفلة منا، في زاوية ضيقة، لولا نأمة خفيفة نلتقطها بسهولة ولا نضيّعها إن انتقلت من الفرنسية إلى لغة الضاد. تقول المترجمة ماري كارولين بأنّ الترجمة أشبه ما تكون بإنجاب الطفل الثاني، لا بد من التصرف بشيء من الفظاظة مع من نحب، ونستقبل الصغير الجديد.
يوم زار الشاعر يوجين غيلفك بيكاسو في مكتبه وكان يضع اللمسات الأخيرة على لوحة طبيعة صامتة، فيها كأس وإبريق وبرتقالة.. لم يكن أمامه شيء من المواد المرسومة في اللوحة، فسأله كيف جمع ذلك وبهذه التفاصيل؟ فأجابه: نعم خاصة وأنني عندما بدأت أرسم - أشار بيده إلى نافذة مقابلة على الحائط المجاور- كنتُ أريد رسم هذه النافذة. القصيدة أيضاً نودّ لها أن تكون، كما حدد تسيلان، بحثاً عن واقع والظفر به، وليست مهمتها أن تعكس هذا الواقع. وقصيدة جورج شحادة تُقبِل بلا برمجة، خافتة وملمومة على ذاتها مثل الحدائق المغلقة في أروقة الأديرة.