شخصيته عصية على التنميط، فهو الفيلسوف المُربِك والمثير للجدل، إلى درجة أن بعضهم وصفه بأنه «ضدُّ فيلسوف» بسبب خروجه عن الأنساق المعروفة. هو اللاهوتي الرافض لدوغمائية الإيمان الكنسي، وفي الوقت ذاته هو الناقد الأدبي والمفكر الذي لا يكتفي بالنظر إلى الأشياء من الخارج، إذ تمحور كل ما أنتجه حول الذات والهوية الشخصية للكائن البشري، حتى إنه بعد وفاته كان يود أن يُكتب على شاهدة قبره «الفرد المنفرد».ورغم سنيّه الاثنتين والأربعين، إلا أن سورين كيركغارد (1813ـــــ 1855) استطاع أن يقدِّم الكثير في مواضيع الجَمال والأخلاق والإيمان، حتى بلغ مجموع أعماله 14مجلداً، مضافاً إليها 18 مجلداً لأوراقه ويومياته. هو القائل «كانت حياتي أن أنتج»، رغم أن سنتين فقط كانتا الزمن الحقيقي لجُلّ ما كتب. وبعد أول خمسة أعوام من عمله في التأليف والنقد استنفد نفسه، لكنه بعدها «نبذ فكرة اعتزاله في الريف، وصار مقتنعاً بأن الأوضاع الأدبية، الاجتماعية، والسياسية الحالية تتطلب خدمات شخص استثنائي مستعد للكلام نيابةً عن الحقيقة. فانطلق ليصدم الناس بالوعي الصحيح لوضعهم»، كما أشار الأكاديمي البريطاني باترك غاردنر في كتابه «كيركغارد.. فيلسوف الإيمان في زمن العقل» الذي انتقل أخيراً إلى لغة الضاد (ترجمة نصير فليح ــــ دار نينوى 2018).

ميّز الفيلسوف الدنماركي بين ثلاثة مجالات أساسية من الوجود: الجمالي، الأخلاقي، والديني، إذ يرى أن الجمالية بوسعها اتخاذ مظاهر مختلفة، فهي تبدي نفسها في مستويات مختلفة من الرقي والوعي بالذات، وتتشعب باتجاهات مختلفة بعيداً عن ملاحقة اللذة لأجل اللذة، بينما الأخلاقية تحتم تحديد الواجبات والمسؤوليات. فالشخص الذي يعيش بصورة جمالية، بحسب كيركغارد، ليس شخصاً مسيطراً على نفسه أو أوضاعه. فهو «يحيا دونما خطة وينزع إلى العيش من أجل اللحظة، فمهما كانت اللحظة العابرة، فإنها ستجلب معها اللذة، الإثارة، والاهتمام، ولأنه بلا التزام بشيء دائم أو محدد، ولأنه مشتت في المباشرة الحسية، فإنه قد يفعل أو يفكر بشيء معين في وقت ما، ويفعل أو يفكر بعكس ذلك تماماً في وقت آخر. حياته بالتالي بلا استمرارية، وتفتقر إلى الاستقرار والتركيز، تغير سياقها طبقاً لمزاجه أو الظروف. لذا مقاربة الشخص الجمالي للعالم سلبية، لا سيما أن اقتناعه خاضع لحالات يكون حضورها أو تحققها مستقلاً عن إرادته: استسلامه إلى العرضي، التصادفي، وإلى ما ينشأ في سياق الأحداث». وبالتالي، فإن اليأس من حياته وأسسها، سيكون ضرورة للتعرف على شكل أسمى من الوجود، وهنا سيتَّبع الخطوة المصيرية باتجاه الأخلاقي، الذي يوجه انتباهه صوب حقيقته الجوهرية ككائن بشري له كذا وكذا من المواهب، الميول، والعواطف، وكلها متغيرة وتأتي بمثابة تحدٍّ لذاته، لأن معرفته بها ليست مجرد تأمل، وإنما «تفكّرٌ في نفسه»، وهو ما أبرزه بأكبر جلاء في مؤلفه «إما/أو»، لينتقل في كتابه «الخوف والارتجاف» لتبيان قصور الأخلاقي عن استيعاب ظاهرة الإيمان «أسمى عواطف الإنسان».
كيركغارد اهتم في الجانب الفلسفي بـ«فعل الإيمان»، لا كفعل ديني بسيط بالمعنى المتعارف عليه، بل كفعل ذي أبعاد معرفية «إبستمولوجية» خاصة، لا يرقى إليها النشاط العقلي، إذ رآه ملائماً لنطاق خاص من الوعي والفكر البشريين فحسب. الإيمان عنده ذاتي فردي، مرتبط بالإرادة الشخصية، ولا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الحقيقة الكلية العامة. وهو في منظوره لا يتحقق من خلال الاستقراء أو الاستنباط، أو المنهج التاريخي، ولا يثبت بالمنطق أو الفلسفة أو العلم، فهو حقيقة مستقلة عن كلّ ذلك، لا يمكن حدوثها إلا عبر قفزة في المجهول. والعواطف المتقدة المتدفقة هي التي تقود إلى تلك القفزة، وتنتهي إلى أن يكون الإنسان بين يدي الله. أما عندما يتحول الإيمان إلى مجموعة معتقدات ومقولات ومفاهيم وأفكار وشعارات، يجب أن يعتنقها الكل، ويحفظها الكل، ويتطابق فيها الكل، فحينها لن يرتوي القلب بـ«لذة وصال الحق». كما أن الإيمان لا يتحقق بالنيابة، لأنه تجربة ذاتية تنبعث في داخل الإنسان، وصيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجود يرتوي به ظمأ الروح للمقدس.
اهتم بـ«فعل الإيمان» كفعل ذي أبعاد معرفية «إبستمولوجية» خاصة


من هنا، دعا كيركغارد قرّاءه إلى الانسحاب من «العبادة الرسمية» إذا أرادوا تجنّب الاشتراك في ممارسات تعادل السخرية من الله. وبعد انتهائه من دراسة اللاهوت، ركّز بشكل خاص على نقد الأخلاق المسيحية السائدة في زمنه والمؤسسة الكنسية بشكل لاذع، معلناً أنها انصرفت عن الدلالة الحقيقية لفعل الإيمان المسيحي. ووفق رؤاه الخاصة، ناقش أفكار كل من كَانط وهيغل وهيوم وشتراوس وفيورباخ وغيرهم، فكانط رأى أن «كل المحاولات للاستفادة من العقل بصورة تأملية محضة بمرجعية اللاهوت، هي محاولات عقيمة تماماً وطبيعتها الداخلية لاغية وباطلة»، وتالياً ينبغي تحويل الانتباه من الاستعمال التأملي أو النظري للعقل إلى استعماله العملي. كما من الضروري «نكران المعرفة من أجل إفساح مكان للإيمان»، وهو ما يستتبع الاستقلال المنطقي للأخلاقية عن الدين، ومن دون شك انطوى ذلك على رفض الأخلاق المؤسسة لاهوتياً بالمعنى التقليدي، فالأخلاقية هي التي تقدم الدعم للإيمان الديني وليس العكس، بمعنى أن كانط كتب كما لو أن الإيمان الذي رغب في تأييد دعاوى قبوله، كان موضع إرادة أكثر مما هو موضوع فكر، وهو ما بدا في حينه تصوراً مختلفاً جداً عن الإيمان.
هيغل بدوره رأى أنه يمكن رؤية التصورات الدينية كما تطورت تاريخياً كعرض لبصيرة متنامية في المغزى الروحي للعالم. بصيرة نالت صورتها الأعلى في المسيحية «الدين المطلق»، مستشهداً بحادثتي سقوط آدم وحواء، والافتداء اللاحق بتجسد المسيح، حيث تمت مصالحة العقل والدين. دعمه في ذلك شتراوس الذي ارتأى أنه يجب قراءة عقيدة التجسد المسيحية باعتبارها ترميزاً للوحدة الجوهرية بين ما هو طبيعي وما هو روحي في حياة وتطور الجنس البشري ككل. فالثنائية المزعجة للدغمائيات التقليدية للإيمان الديني، والتي بحسبها يكون الله والإنسان منتميين إلى مجالين منفصلين من الوجود، ينبغي استبدالها بالنظرة النافذة بإمكان إدراك «الجوهر الإلهي» من خلال البشرية فحسب. وهو ما أكده أيضاً فيورباخ حين قال إن «معرفة الإنسان المفترضة بالله لا تعادل في النهاية أكثر من معرفته بنفسه. فإن سر اللاهوت انكشف أخيراً باعتباره أنثروبولوجيا».
أما ما يتعلق برأي كيركغارد بمجمل هذه الأفكار، فإنه أظهر نفسه، بحسب غاردنر، غير بعيد عن التعاطف مع إصرار كانط الأصلي بأن الاقتناعات الدينية هي قضية إيمان، وليست قضية معرفة. لكن مع ذلك، فالاقتراح بإمكان إبطال تحديدات العقل النظري أو المعرفي على نحو ما بواسطة اللجوء إلى العقل في إمكانياته الأخلاقية، كان شيئاً آخر، بالنسبة إليه. أما التطلع الهيغيلي لإثبات أن الدين متاح لتأويل يظهره بعد كل شيء كمستودع للحقيقة الموضوعية، فيرى فيه كيركجارد نظرية أسلمت نفسها بسهولة إلى التصورات التي يكون فيها الإنسان، وليس الله، الموضوع الأساس للوعي الديني، وهذا يؤكد فقط أن ما يسمى «التأويل التأملي» قد شوّه تماماً معنى المسيحية. وبحسب كيركغارد، فإن «محاولة هيغل لإثبات أن العقل هو مصدر الحقيقة النهائية، أثارت صعوبات لا تذلل، وأذابت الوجود في الفكر، واختزلت العرضي إلى الضروري، وأخضعت الفردي إلى الكلي». لذا يؤكد فيلسوف الإيمان أن «الذاتية هي الحقيقة»، مُقارناً وضع إنسان رغم امتلاكه لتصور صحيح عن الله، فإنه يصلي له بروح زائفة، مع آخر رغم انتمائه لجماعة وثنية يصلي إلى وثنه بكامل شغف اللا نهائي. وطبقاً لكيركغارد، يمكن إيجاد معظم الحقيقة في جانب الشخص الثاني. فـ«المغزى النهائي للمسيحية يمكن الإمساك به فقط عبر الاستعداد الشخصي والالتزام الباطني». هنا يؤكد كيركغارد: أن تكون شخصاً (person) يعني أن توجد ليس في صيغة للوجود، وإنما للصيرورة، وما يصير إليه الشخص هو مسؤوليته الخاصة، نتاج إرادته، مُستشهداً بالقصة الإنجيلية عن السقوط التي تظهر آدم جاهلاً مبدئياً بالفرق بين الخير والشر، ومع ذلك فإن نهيه عن الأكل من ثمرة شجرة المعرفة أيقظ بداخله إمكان الحرية، قائلاً «إنه التصرف الذي يظهر فيه الانتقال، في خبرة كل فرد، من حالة البداهة الغافلة عن نفسها، إلى حالة وعي الذات وتقريرها».
يرى كيركغارد أيضاً أننا «في عصرنا، وبسبب التزايد العظيم في المعرفة، نسينا معنى أن نوجَد»، وبات هناك «إذابة للأخلاقي في ما هو اجتماعي، في الموضوعي»، عندما بات العيش مسألة معرفة أكثر مما هو مسألة فعل، إذ أضحى الناس يعرفون ما عليهم قوله، لكنهم لم يعودوا على اتصال بالمعنى الحقيقي لما يستعملونه من كلمات. وأصبحوا يفعلون أي شيء على أساس المبدأ، متجنبين كل المسؤولية الشخصية، وبالتالي فقدوا البصيرة بأنفسهم كأفراد فريدين، ضمن نطاق العموميات الغافلة وكليات التفكير الجمعي التي لا دم فيها، بينما الحقيقة بحسب كيركغارد «لا تقدم للشخص من الخارج، وإنما من باطنه».
وتبقى رؤيته الفلسفية لتضحية النبي إبراهيم ذات قيمة عظمى، بسبب تصويرها الصارخ لطبيعة الخيار الذي واجه إبراهيم. وقد استطاع تنفيذ «حكم الله عبر الفعل»، ليس بالضد من ميوله الطبيعية كأب محب فقط، وإنما بتجاوزٍ للمبدأ الأخلاقي العميق التجذر الذي يمنع قتل إنسان بريء. يقول في ذلك: «إنها مقاربة لمأزق إبراهيم بمأزق البطل الأخلاقي أو المأساوي. وهنا البطل المأساوي يتخلى عن المؤكد لصالح ما هو أكثر تأكيداً، وعينُ المُراقب تنظر بثقة إليه، فإبراهيم انتهك الأخلاقي بكليته، وعنده غاية أعلى خارجة عنه وبالارتباط بها قام بإرجاء الأخلاقي. هذا التنازل عن الكلي يتضمن مستوى من المحنة يتجاوز كل ما يمكن نسبته إلى نظيره الأخلاقي، إذ إنه كفرد محدد وضع نفسه في علاقة مطلقة مع المطلق»، داعياً إلى ضرورة تمييز جوهر الله المفهومي أو المثالي عن «الوجود الواقعي»، والاستدلال على وجوده من التجليات العارضة للبراعة الإلهية في نظام الطبيعة.
في جميع معارضاته الفلسفية والفكرية واللاهوتية، بقي كيركغارد كما وصف نفسه بأنه كان «جانوس» ذا الوجهين: لكنه لا ينظر إلى الماضي والمستقبل، بل يضحك بوجه ويبكي بالآخر، يضحك لفرحه بما استطاع سبره عن الذات البشرية، وإيمانه بصوابيتها وجمالية التعبير عنها، ويبكي لأنه مُدرك أن كثيرين يرتبكون من كشوفاته الصَّادمة، وينهرون كتاباته على أنها شيء خارج الفلسفة، وبعيدة كل البعد عن محبة الحكمة، لكنه لإيمانه بذاته وإحساسه العميق بأنه المُنافح الأمثل عن الحقيقة، والأقدر على الإمساك بها، كتب كل ما كتب، متسائلاً: «ما الخير الذي سيعود عليّ إذا وقفت الحقيقة أمامي، باردة وعارية، غير عابئة بما إذا كنت أتعرف عليها أو لا؟»