في الوقت الذي تتمسك قيادة ميليشيات رام الله باتفاقيات «وعد بوعد بوعد»، مع العدو الصهيوني، وتواصل التمسك بوهم أن تلك الاتفاقيات، بما فيها التنسيق الاستخباراتي مع العدو الصهيوني ضد المقاومين الفلسطينيين ووصولها إلى القاع الذي لا قاع له، هي السبيل الوحيد لتحقيق أهدافها المعلنة، فإن العالم كله على قناعة باستحالة تحقيق ذلك، وأن جماعة رام الله اختارت لأسباب نفعية العيش في وهم والتعيّش عليه.وفي الوقت الذي تجرؤ فيه أنظمة التخلف والخيانة والمتصهينة الأعرابية مثل مملكة بني سعود وبني نهيان في الإمارات المتصارعة وبني حمد في قطر، وغيرها من الدول العربية، على منافقة العدو الصهيوني، ومحاولة جعل وجوده في بلادنا، أمراً طبيعياً بل مطلوباً، فإنّ كثيراً من قوى التحرر والعدالة في العالم تزيد من إدانته له بل ومقاطعته. فـ«عندما أمر السيسي بسحب مصر مشروع قرار لمجلس الأمن يدين مستوطنات العدو الصهيوني، بأمر من ترامب، قفزت أربع دول غير عربية هي نيوزيلندا وماليزيا وفنزويلا والسنغال، وتبنت المشروع الذي أقرّ بـ 14 صوتاً، بينما قررت إدارة أوباما الامتناع عن التصويت» ما منحه شرعية دولية. أما دولة جنوب أفريقيا وقيادتها الصديقة للشعب الفلسطيني ولقضايا التحرر في العالم، فقد استدعت سفيرها احتجاجاً على وحشية عسكر الصهاينة ضد المتظاهرين الفلسطينيين.

ملخص القول إن كيان العدو الصهيوني ــ رغم المكانة الاقتصادية التي يتميز بها، بفضل مساعدات واشنطن، واستغلالها للأرض الفلسطينية واتباع سياسة التفريق العنصري ــ يجد نفسه محاصراً أكثر من أي وقت. فالشرعية التي اكتسبها، عقب فظائع النازيين، بين شعوب أوروبا في الخمسينيات والستينيات، بدأت بالتبخر منذ السبعينيات، في تطور مواز لانتقال المجتمع الإشكنازي والسفاردي نحو أقصى درجات التطرف اليميني.
غريغ كارلستروم الكاتب الإنكليزي المقيم في تل أبيب أصدر أخيراً «ما عمر إسرائيل ـ الخطر من الداخل» (منشورات جامعة أوكسفورد 2017). المؤلف كان مراسلاً لصحيفة «تايمز» اللندنية ومجلتي «إيكونوميست» الإنكليزية و«نيويورك» الأميركية. عمل سابقاً مراسلاً لقناة «الجزيرة» الإنكليزية، وهو متعاطف عضوي مع كيان العدو حيث يصفه بالديمقراطية وما إلى ذلك من اللغو السمج المستهلك. هو يرى أن استمرار ميل المجتمع في كيان العدو نحو اليمين المتطرف، وتقسمه إلى قبائل (tribes) أو معسكرات مختلفة، ومتناحرة، يشكل خطورة على الكيان، وينذر بحرب أهلية، أي إن استمر ذلك فسيؤدي إلى انهيار الدولة وتحللها.
يحدد الكاتب عوامل عدة تهدد مستقبل كيان العدو ومنها سياسات المواجهة واحتلال ما يسمى «الضفة الغربية» التي تمزق وحدة القوات المسلحة الإسرائيلية وتقسم المجتمع، إضافة إلى الشق القائم حالياً بين الإشكناز والسفارديم والحريديم، وبينهم من جهة، والفلسطينيين من جهة أخرى.
يشدد المؤلف على حقيقة الانقسام العضوي بين مختلف مجتمعات كيان العدو، إضافة إلى الانقسامات السياسية غير القابلة للردم في المستقبل المنظور. كما يشير إلى عامل الانقسامات الاقتصادية والفوارق الهائلة بين الطبقات والفئات الاجتماعية.
العامل الأكثر خطورة على مستقبل الكيان ووجوده، دوماً وفق الكاتب، هو نتنياهو لأنه «خلق فضاءً للمؤدلجين والطائفيين والمتطرفين المصممين على تفكيك الخيوط الاجتماعية التي شدت المجتمع في الماضي». فكيان العدو، وفق الكاتب، أضحى مجتمعاً عصبياً-دينياً، ذا هوية يمينية واضحة. ففي مكان التظاهرات المعادية لاحتلال جنوبي لبنان والحرب عليه، استحال المنظر إلى عصابات اليمين المتطرف تلاحق المعادين للحرب، ووقوف الشرطة متفرجة بدلاً من حماية الأخيرين. يقول الكاتب إن نتنياهو يبدو معتدلاً مقارنة بوزرائه، لكنه يخاطب المخاوف العنصرية لدى المستمع.
رغم المكانة الاقتصادية التي يتميز بها، فإنّ كيان العدو يجد نفسه محاصراً أكثر من أي وقت


هنا لا بدّ من تأكيد أن ملاحظات الكاتب لا تنطلق من منظور معاداة الكيان، بل المحافظة عليه؛ تماماً مثل موقف مليشيا رام الله التي تتمسك بما تسميه زوراً «حل الدولتين» لأنه مفيد للعدو وليس للشعب الفلسطيني.
أثار هذا المؤلف موجة من التعليقات، المعادية على نحو خاص، وعدَّ الكاتب قاصر الفهم! لكن هناك من عد المؤلف مهماً «أيضاً بحجة أن صحيفة تايمز اللندنية استغنت عن الكاتب بعد صدوره، بما يعني أنه محق في تحليلاته واستنتاجاته!» كما نال مديح قراء ومعلقين كثر.
الكاتب، وكثير من المعلقين على مؤلفه لاحظوا أن نزوع كيان العدو نحو اليمين المتطرف والعنصرية، أمر طبيعي كونه نسخة عن المجتمعات الأوروبية، قاعدة متقدمة للغرب، تعيد إنتاج من خلقها وأسسها ودعمها. الغرب، كما نرى، يتجه بأقصى سرعة نحو اليمين، كما يرى الكاتب، الذي يضيف إن هذا أمر عابر، لكننا نختلف معه في هذا، وفي كثير من أحكامه على كيان العدو. فوجب النظر إلى النمسا وبولونيا وبريطانيا والمجر وتشيكيا وحتى ألمانيا، وكيان العدو ليس مختلفاً عن ذلك. تكمن المشكلة في أن تلك الكيانات الأوروبية ليست مهددة وجودياً، على عكس كيان العدو.
يقول الكاتب إن النزوع الغربي إلى اليمين مؤقت، وإن الأجيال الأوروبية الجديدة تميل إلى أن تكون اجتماعية-ليبرالية، فإن رديفها في كيان العدو محافظ مع نزوع لليمن المتطرف مع تميز لامتلاك قوة توسع وتوسيع أراضي الدولة الإشكنازية، كما يتجلى ذلك في حركة الاستيطان. مؤلف مفيد للاطلاع على بنية كيان العدو يحوي تفصيلات كثيرة، مع الحذر من الأحكام المتعاطفة مع الصهيونية وكيانها العنصري.