ينشغل الكاتب السوري رامي الطويل في روايتهِ «حيوات ناقصة» (دار الساقي) بصياغة حكاية سورية اجتماعية، عبر استخدام شخصيات صنعها واقع البلد السياسي خلال سنوات الفساد والبطش، فخرجت شخصيات واهمة تعيش في الأحلام وتجنح إلى العيش في الظل. عبر مفاتيح قليلة وخاصة بالزمان السوري، يقرأ الكاتب واقع مجتمعهِ، يلمح صورته وتشابك علاقاتهِ في إطار يخلو من المفاجآت إزاء نكوص عام يرصده الراوي. إذ لا يوجد جنس فاعل وإنّما شبهة جنس، لا يوجد واقع سياسي متفجر، وإنّما ثمة شبهة لعمل سياسي يحدث في المكاتب المغلقة والعتمة. ينهض نص رامي الطويل بين هاتين الشبهتين، يحاول التوفيق بينهما وجعلهما متناغمتين، فجاء بشخصيات تحمل نفوساً واهية، تفتقر للبطولة وتجهلها. شخصيات مهووسة بالنظافة والتعقيم، إلا أنّها تمتلك نفوساً دنّستها رغباتها ورغبات الآخرين ضمن ثقافة سائدة؛ تفتقد الحرية، تفتقد الرغبات الحية، وتسعى لتقييد الآخر عوضاً عن إطلاقهِ. تأخذ الرواية منحى اجتماعياً سياسياً، ويسير الخطان في مسارين مختلفين، يتقاطعان عبر شخصية عبد الرحمن. يغيب التحديد الزمني للحدث، وتحضر مدينة اللاذقية، مكاناً مغلقاً على وقائع مغلقة لحيوات ينضج نقصانها بهيئة مصائر ضيقة، لا تعرف الحرية ولا تعترف بالحب.

تطلق جملة مروة في سهرة الأصدقاء معظم مسارات الرواية. الجملة التي بدت عادية، عندما صرّحت بأنّها تزوجت من نزار لأنّها عثرت على رجل يمكنها استخدام فرشاة أسنانهِ، راحت تثير في نفوس الأصدقاء ضحكاتٍ ودموعاً. ينشغل الراوي بتبريرها خلال فصول الرواية، باستثناء الفصل الأخير، الذي يتحدث عن عبد الرحمن الغائب الوحيد عن السهرة التي أقامها نجوان احتفالاً بافتتاح شركة إنتاج فني. لقد ضعفت صلات هذا الفصل مع الفصول الأولى حداً أساء للمقاربة التي بدا أنّ الكاتب ينشدها: بين الجنس بصفته أداة تعبيرية يملكها الناس، والسياسة بصفتها أداة للإخضاع تملكها السلطة، حيث يظهر العقم السياسي السوري في ارتكاسات سلوكية جنسية مريرة. يشكل سلوك الشخصيات جميعها انعكاساً ماهراً لمجتمع مقموع، يعيش في أحلامهِ، طوّر ناسهُ آليات للوهم ثمّ اختلطت الصور التي ابتكروها على حياتهم الحقيقية. لا ينشغل الكاتب بتفكيك هذا المجتمع المتآلف بطريقة شاذة، وإنّما يحاول أن يكون أميناً في رصد الواقع الاجتماعي السوري الشائك الذي نبت في ظل الفساد واستمر في ظل انقساماتٍ وحروب، حتى الجنس يظهر مثل زهرة باهتة في حياة أناس خضعوا لإرادات طغيان متعددة. يتضّح أثر الجملة العادية في شكل العلاقات العاطفية الهش والروابط الاجتماعية الزائفة. إذ يبني الكاتب روايتهُ على جملة واحدة، ويجعلها مدخلاً غير مألوفٍ لرواية تحاكي مجتمعاً يعيش بصورة رتيبة. يستند الكاتب في سردهِ إلى لحظات حاسمة، مشرقة أو سوداء، عرفها أبطالهُ، إلا أنّها لحظات فارقة دفعتهم إلى الفعل وحثتهم على التغير أو الاستكانة، مثل تلك الصفعة التي دفعت بها وفاء إلى وجه الشاب رياض، الذي كانت تحلم بالقرب منهُ. في ذلك الزقاق الضيق وهي تدفع يدها إلى وجه رياض عوضاً عن احتضانهِ، تتلّخص حياة وفاء، التي تنقل خضوعها من رغبة أهلها إلى رغبة زوجها، قبل أن تقترف خيانات شتى للزوج الذي جعلها تعيش حياة معقّمة. ألمع خياناتها مع نزار، زوج مروة، التي زرعت جملتها عن الأسنان، الشكوك في رجولتهِ. استعادها برفقة وفاء التي أثارته دموعها في السهرة ولاحقاً، أثاره شبقها الجنسي الذي تنتقم عبره من الحياة برمتها.
حكاية سورية اجتماعية وشخصيات صنعتها سنوات الفساد والبطش


يعود الراوي إلى نشأة أبطالهِ، يبحث عن تفسير لسلوكهم في ماضيهم البعيد. اعتبر أهل عبد الرحمن ابنهم، نافذتهم على الأحلام، عاش في عزلة عن رفاقه، بينما يفكر وهو طفل بلقب الدكتور، الذي يلازمه طوال حياتهِ من دون أن ينجح بأن يكون طبيباً. يلعب رفاقه في الشوارع وتنمو عقده معهُ. لا يخرج عبد الرحمن عن صورة، لطالما عرفها السوريون، للفاشل الدراسي الذي يلجأ عبر علاقات تتيحها آليات الفساد ليصير واجهة أشخاص مجهولين. اختبر عبد الرحمن نفور الفتيات منه، زوّجته والدتهُ لوفاء، وعاش مع زوجةٍ يجهل جسدها! يُكلّف بالإشراف على صيانة أحد السدود المتصدّعة، يوافق، بعد أن يشترط ظروف النظافة والإقامة منفرداً، ليشهد الزلزال النفسي برفقة جواد، بعيداً عن أصدقائه الذين يواصلون تكرار أيامهم في المدينة.
يحضر جواد حضور النقيض، المآل الآخر، في حياة عبد الرحمن، لقد عاش حياةً لطالما أرادها وجَبُنَ عنها، وعندما تروى أمامهُ تلك الحياة المغامرة والحقيقية، يُسحَر براويها، وينتابه فضول شديد لمعرفة مسرح البطولات. يجذبه جواد إلى عالمهِ، ويدفعه إلى رؤية الأشياء من وجهة نظر ثانية. عبر التأثير الطاغي لجواد، ومن خلال ذلك التعلّق والتعوّد الذي أحكم على عبد الرحمن، أعاد الطويل للسرد حيويتهُ، إذ يثري الكاتب سرده بالاستناد إلى راوٍ مختلف، زرعه بين الشخوص ثمّ دفعه إلى الاختفاء، حتى بدا وجوده مجرد حيلة سردية تحاكي الحيل الواقعية التي تفرضها المدن، حيث يبرز مجانين اللاذقية لإنقاذ هذه المدينة من الصورة المحدودة، يظهرون جرحاً شهياً في مشهد مستكين وآسن.