كانت قدماي تصغران كلما كبرت، وأحذيتي تتسع، حتى صرت أتجول فيها، ولم أعد بحاجةٍ للطريق.*
* *
مع كل تلويحة، كنت أفقد يداً. تذهبُ مع المغادر، لتُدس في معطفٍ ثقيل بمدينة بعيدة، لتتقي لطمة الجلاد في زنزانة، لتسيل على جسد امرأة في غرفة فندق، أو لتُعانق التراب في مقبرة.
كل من ودعتهم مضوا بخمس أصابع زائدة، كأن الوداع لا يكتمل إلا بمعصمٍ مبتور على الجانب الآخر.
«توحّد» لفيرينزي لاي (زيت على كانفاس ـــ 2013)

كنت أعتقد أن التلويحة كفٌ في الفراغ، ثابتة ووهمية، تنهض فقط لتحتجز الهواء من خلفها كي لا يحرك خصلة الشعر الأخيرة التي يجب أن تظل في مكانها. لم أكن أعرف أن أصابعي المفرودة ستكون دائماً قبضة غيري.
لم أسترد يداً من تلك التي أعرتها للمغادرين، ولم يمنحني أحدٌ يداً حين احتجتُ أن أغادر. حتى هذه اليد التي تبقت لي، والتي أكتب بها هذه الكلمات عوضاً عن أن ألوّح، حتى هذه اليد الأخيرة: ذهبت مع اللغة، لتكتب شخصاً آخر.
*
* *
كل امرأة أحبتني، حوّلت وداعي لقصيدة.
لم يُسمح لي أن أطالع إحداها، ولم أكن بحاجةٍ لذلك، لأنني كتبتُ جميع القصائد التي لن أقرأها.
كأنني يدُ الكلمات عند الوداع، تلك اليد التي لم تُخلق للمصافحة. كأنني الكلمات نفسها: الكلمات المرجأة التي تُصادف رجلاً، فقط لكي تولد.
لستُ كلماتٍ رغم ذلك، ولستُ يداً.
أنا قلمُ جميع الأوراق الخالية: قلمٌ، تمتن كل صفحةٍ لوداعه فور أن تمتلئ.
*
* *
ذات يوم، وأنا بداخل الشقة، قررت أن أطرق الباب. لدهشتي فتح لي أحدهم من الخارج، وسألني عمن أريد بينما يطرد نوماً مزيفاً يحمي به أصحاب البيوت أنفسهم عادةً من عيون الضيوف المستيقظة. 
رميتُ نظرة خلف كتفه، مثلما نفعل جميعاً عندما نطرق باباً لنسأل عن شخص بينما نفتش عن شخصٍ آخر. لم أر كتف امرأة مرتبكة يعبر بين حجرتين، ولا يداً تخطف طفلاً عارياً باتجاه الغرف. لم أر عجوزاً يُخفض ساقاً تيبست فوق أختها، ولا مراهقاً يلم كراساته من فوق طاولة الأكل. رأيتُ سياراتٍ مسرعة، وإشارة مرور تبدل ألوانها، رأيت بيوتاً ترتج من عبور قطار، وفتياتٍ يهربن من رعب النواصي. رأيت نهراً ورجال شرطة، يتأمل كل منهم الآخر، ولا يحول بين مواجهتهما إلا حائط هش من أجساد المراهقين. كانت مدينة كاملة محشورة في الممر الضيق وراء باب بيتي، وكان ثمة شخص يحدق فيّ، فقط ليعرفَ أي اسمٍ في بيته جئت من أجله. مثله، بقيت أحدق فيه منتظراً بدوري سؤاله، وقد صار كلانا، أخيراً، ضيفَ الآخر.
ظللنا هكذا، بابين ينتظر أحدهما أن يُغلق الآخر أولاً. فقط كان يتحرك في حيز عتبته، متأرجحاً كبندول ساعة معطلة، ليتفادى السيارات المسرعة من خلفه، فيما كنتُ، بالكاد، أميل بجذعي كل لحظات لأفسح طريقاً، كلما عبر باب شقتي جسدٌ ساكن، متبوعاً بصرخة.
*
* *
بقعة الطعام تلك، تركتها الطفولة على قميصك. بقعة الحبر، أفلتتها يد النضج على القميص نفسه، وتراب شوارع لم يعد لها وجود، هبّ على الثنيات وسكن المناطق التي لا تصل إليها أدوات التنظيف. وذلك الدم المتيبس، عندما دخلت معركتك الأولى وخرجت منها خاسراً لأنك اكتفيت بدم عدوك على ملابسك وكان يجب أن يكون على ملابسه هو.
نعم، ذلك الدم الذي لم يعد أكثر من ذكرى جرح، بهت ألمه وأظلم لونه، كجميع الشموس التي تولد، فقط لكي تخبرنا شيئاً عن الظلمة. ذاك الدم الناشف الذي ينتظر أن تفتته أصابع الغد، لتولد من جديد. بسبب ذلك بالذات نخشى المستقبل، ليس لأنه يقربنا من التراب كما ندّعي، بل لأنه يمنحنا فرصة جديدة لكي نبدأ، فجميعنا نعرف بشكلٍ غامض أن من يولد أكثر من مرة، يكون موته نهائياً.
كل هذه الندوب وما زلت ترتدي القميص نفسه.. القميص الذي لم يكبر مثلك، لكنه لم يضق على جسدك منذ الطفولة، القميص الذي فوجئت به اليوم يتألم عندما فتقه مسمار، ورأيت دماً يقطر من قماشه، فأدركت أنه، من فرط ما التصق بك، صار عريك.
* مصر