لماذا اخترنا هذا المؤلف الفلسفي «الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية - أبعد من اليهودي والإغريقي» (Continental Philosophy and the Palestinian Question: Beyond the Jew and the Greek ــــ Bloomsbury Academic. digital edition 2017) بقلم عالم فلسطيني هو زاهي عنبرة زلوعة عن المسألة الفلسطينية للعرض؟ نعلم جميعنا أن ثمة نقصاً حاداً في التصدي الفلسفي لمواقف مختلف المفكرين الغربيين إزاء الظلم الذي ألحقه الاستعمار والصهيونية وملاحقهم من عرب سايكس ـــ بيكو وأعرابها، بالشعب الفلسطيني. لذلك، فإن هذا المؤلف يقف وحده في مواجهة الاتجاهات الفلسفية الأوروبية التي إما تحارب الشعب الفلسطيني وتتنكر لحقوقه، أو تتجاهلهما، من منطلقات نظرية.

الكاتب المفكر زاهي عنبرة زلوعة أخذ على عاتقه معالجة المسألة على نحو خلاق وإبداعي، لم يسبقه إليه أي مفكر تعامل فلسفياً مع حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه. تصدّيه الفكري الشجاع لمجموعة من الفلاسفة الأوروبيين ذوي العلاقة، دفع محرر هذه السلسلة Suspensions: Contemporary Middle Eastern and Islamicate Thought لتبني هذا المؤلف. وقد قال فيه الآتي: «ظل الشعراء والفنانون واللاهوتيون والفلاسفة والمتصوفون في الشرق الأوسط والمناطق التي تسودها الثقافة الإسلامية، منشغلين لقرون باستخلاص المعاني من المفاهيم الخاصة بالرغبة والجنون والنزعة الحسية والعزلة والموت والزمان والمكان، وإلى ما هنالك. وشكَّلوا بذلك مجالاً فكرياً شاملاً لا يكف عن التحوُّل. بالتالي، وعلى غرار كل الدفق النظري والإبداعي، يمتلك الدفقُ الخاص بهؤلاء عالمه الحيوي الخاص. هو تركيبة جرى تجميعها على نحو أخرق من تجارب غريزية غير مألوفة، وخرائب فكرية، وأساليب جمالية مبتكرة، وانعطافات اجتماعية ـــ سياسية ـــ أيديولوجية، وهواجس تتصل بالمستقبل. عالم جرى بناؤه وهدمه (جزئياً أو كلياً) ومن ثم إعادة بنائه ثانية مع بعض التغييرات السطحية البسيطة. لكن أساليب استشراف الأمور تتحول، تاركة من يجرؤون على عبور تلك العوالم غالب الأحيان في حالة من الارتباك والانكشاف».
النتيجة أن أولئك المفكرين وتهيؤاتهم الفكرية ظلوا مجهولين إلى حد كبير، بل أسوأ من ذلك، ظلوا يُقَدَّمون بطريقة خاطئة في ما يُدعى العالم الغربي. وفي ظل سيطرة البنية الإمبريالية، هناك قلة مختارة تُعَدُّ جديرة بالاهتمام ويجري الحديث بالنيابة عنها، أو بالأحرى الحديث عنها. ويتم تبسيط أفكار هؤلاء واختزالها إلى مجرد صيغ اجتماعية وتصنيفات تجريبية ذات طبيعة بحثية، في حين يجري التساهل مع من يوصَفون بأنهم فلاسفة وكتّاب غربيون ويُمنحون مطلق الحرية لإمعان الفكر بالأفكار الأكثر تجريداً أو تبصّراً. أما المفكرون غير الغربيين، ولا سيما منهم الموجودين في العوالم المتخيَّلة للشرق الأوسط والمناطق التي تسودها الثقافة الإسلامية، فلا يُسمح لهم إلا بالكلام عن تواريخ سياسية صرفة أو سرديات ثقافية ذات تركيبة متراصة ومتناغمة. بعبارة أخرى، يجري تشويههم وتحريف أقوالهم بما يتناسب مع النماذج السائدة التي تجرّدهم من إمكاناتهم الأكثر سحراً.
ليفيناس وسارتر رفضا تطبيق مقاييسهما الأخلاقية لليهود على الفلسطينيين


إذاً بالإمكان معرفة خلفيات مواقف الدول والسياسيين والأفراد من مختلف الانتماءات الفكرية والعقِدية، بخصوص المسألة الفلسطينية وكتب عن ذلك الكثير، فمعرفة الخلفيات الفلسفية لفلاسفة أوروبا، المنتمين إلى الاتجاهات المتباينة، تبقى ثغرة وجب إحكام إغلاقها. كاتب هذا المؤلف الثمين حقاً قدم أول إسهام فكري فلسفي على هذا النهج. زاهي عنبرة زلوعة، وهو أستاذ مساعد للفرنسية ودراسات متعددة الاختصاصات، يتناول بالبحث المفصل في موقف الفلسفة الأوروبية، ولنقل: الفلاسفة الأوروبيين في القارة الأوروبية، وبالتحليل والنقد في نية مواقفهم من المسألة الفلسطينية. ويوضح على نحو إبداعي خطأ بنيتها القائم، ضمن أمور أخرى، على الاستثناء أياً كان شكله، فاضحاً في الوقت نفسه مكامن عمى ما يسمى الفلاسفة الأوروبيين الراديكاليين ونظرتهم إلى المسألة الفلسطينية من منظور المركزية الأوروبية.
خلال دراسة الكاتب الفلسفة والأدب، وتركيزه على نحو مستمر على مسائل الهوية والمعنى والسياسة وأخلاقيات الاختلاف، على نحو عام، اطلع على مختلف المواقف الفلسفية الأوروبية من المسألة الفلسطينية عندما ارتكب العدو الصهيوني وعملاؤه اللبنانيون مجزرة صبرا وشاتيلا، وكتابات الفيلسوف الأشكنازي اللِّيتواني الأصل، الفرنسي الانتماء الاختياري، إيمانوِيلِس ليفيناس (Emmanuelis Levinas) الذي اختار لاحقاً الصيغة اللاتينية، واسمه الحالي هو إيمانويل ليفيناس، عن المجزرة. لكنه يتصدى في الوقت نفسه للمنظور الثنائي «الإغريقي/ اليهودي» ويناقش مختلف المفكرين ذوي العلاقة، من إيمانويل ليفيناس إلى إدوارد سعيد، مروراً بأغمبِن وباديو وجودث بتلر وبلانشو، ودولوز، وسارتر وجاك دريدا وآلان فنكلكراوت ورانسيير، وجيجيك، وكيفية تعامل الفلسفة الأوروبية مع المسألة الفلسطينية في العقود الأخيرة. ويفكك «الفلسطيني من دون وجه» و«الفرد المسموح بقتله» وغير مسموح له بالشكوى، وغير المتوافر لمقابلة إثنية، ويوضح الحاجة إلى بديل للمغايرة الراديكالية (radical alterity) وانحيازها السياسي.
من المعروف أن كتابات كل من إيمانويل ليفيناس وسارتر عن الأخلاقيات (ethics) بعد الحرب العالمية الثانية وما لحق بالأشكناز في أوروبا من مذابح تركز على الأخير (jew) من منظور أنه ‹خلاصة/ لبّ شخصية الآخر».
جان بول سارتر تجنّب اتخاذ موقف من معاناة الفلسطينيين التي هي نتاج الانحياز للصهيونية. أما إيمانويل ليفيناس فذنبه أكبر لأن فكره قائم على الأخلاقيات. ذاك أنّه رفض إدانة مجازر صبرا وشاتيلا لأن «إسرائيل» امتنعت عن حماية «الآخر» الفلسطيني. يعترف ليفيناس بأن تعريفه للآخر مختلف. هو يرفض رؤية العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي، أي بين الذات والآخر. الفلسطيني عدو وليس جاراً، وهو ما عثر عليه في «الآخر». هنا رأى المؤلف أن كل من ليفيناس وسارتر رفضا تطبيق مقاييسهما الأخلاقية لليهود على الفلسطينيين.
إن اعتماد اليهودي كهوية تاريخية مركز «الآخر» ورمز الاضطهاد، منع المفكرين الفرنسيين من رؤية حقيقة أن المضطَهَد استحال مضطَهِداً. إن سقطات المفكرين الفرنسيين، الفلسفية والأخلاقية، تعلمنا بأن من الخطأ عدّ المسألة الفلسطينية مستقلة عن المسألة اليهودية، بل مرتبطة بها ارتباطاً مباشراً.
يركز الكاتب أيضاً على ضرورة الذهاب أبعد من الانشغال الفلسفي السابق الذي حصر في المسألة اليهودية ليمنح المسألة الفلسطينية الانتباه الضروري. كما يلاحظ أنه رغم أن عاموس عوز اهتم بالمسألة الفلسطينية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، إلا أن أغلبية الفلاسفة الأوروبيين لم يولوها انتباههم إلا بعد مجازر صبرا وشاتيلا في عام 1982، ومنهم جيلي كوهن، وجيل دولوز، لكن مجموعة أخرى من المفكرين الأوروبيين، ومنهم باديو وجيجيك، انضمت إلى آنفي الذكر بعد الانتفاضة الأولى والثانية وسلسلة الاعتداءات على غزة في عامي 2008 و2014. مع أن الأخيرين ينظران إلى المسألة الفلسطينية ضمن إطار سياسي.