ما هو موقع الرواية العربية في أطلس الرواية العالمية؟ وما المسافة التي قطعها الأداء الروائي العربي نحو محكي الذات أو التخييل الذاتي؟ وما سرّ هذا الطوفان الروائي الذي اجتاح المدوّنة السردية بكتابات سطحية ونيئة؟ أسئلة يطرحها الناقد السعودي محمد العباس في كتابه «الفضاء الثقافي للرواية العربية» (دار نينوى) في قراءات ثقافية تتلمس أسباب العطب، و«سرّ الإنهاك الذي أصاب الفعل الروائي العربي» في السنوات الأخيرة. لا يبدو صاحب «عرّاف الرمل»، متفائلاً إزاء هذه الولادات القيصرية للرواية العربية بفعل إغراء الجوائز في المقام الأول. وإذا بعشرات الروايات تقتحم المشهد سنوياً، بطموح توطينها وتصديرها إلى الواجهة بوصفها «فصاحة سردية جديدة». كما يعيد هذا الارتباك الكتابي إلى «التركيز على وعورة وحساسية الموضوعات وإغفال الكيفيات». ما سينجو من هذا الركام إذاً، تلك الروايات التي تعتني بابتكار تقنيات مفارقة ومبتكرة في تقليب وحراثة تربة السرد. أولى المعضلات التي تواجه القماشة الروائية الراهنة «شعرنة السرد»، وذلك بالاتكاء الباهظ على سيل من الصور الشعرية التي تطيح عملياً جوهر الأحداث والشخصيات والحوارات، ما جعل هذه التجارب تسقط في «اللغو» وتقويض أركان السرد، وليس علامة على نزعة ثورية، كما يبرّر أصحابها. «إن الاستغراق اللغوي في الأجواء التأملية الصوفية، والانغماس الهذياني في المتعة البيانية، لا يصنع رواية. إنما يحط الفعل الروائي من مستوى الكتابة إلى عادية الكلام» يقول.في «الرواية العربية على حافة الحداثة»، يفحص الناقد مصطلح الرواية الجديدة ببعض الريبة، نظراً إلى غياب «مظلّة تنظيرية» يحتكم إليها الروائي والناقد معاً لصعوبة الإلمام بالمشهد وبسبب غزارته وتشظيه وخفّته. ففيما يلهث الروائي وراء بريق الجوائز، تراجع دور الناقد، وبرز دور القارئ الذي بات هو من «يحدّد مقروئية الرواية وجدارتها بالحضور في السوق الجماهيري». ومما أجج هشاشة المشهد «دخول أعداد غفيرة من قرّاء الرواية في مطبخ كتابتها وإنتاجها، بدون أدنى خبرة فنية أو أدبية». لكن ماذا بخصوص موقع الرواية العربية من خريطة الرواية في العالم؟ يجيب «الروائي لا يخترق آفاق العالمية ما لم يكتسب مشروعيته الروائية ومقروئيته الجماهيرية داخل بيئته الثقافية» مثلما حصل لنجيب محفوظ الذي عبر عتبة المحليّة نحو العالمية (نوبل للآداب)، لكن هذا الفوز اليتيم هو- في المقابل- دليل على ضآلة حضور الرواية العربية عالمياً، ما يؤكد على عجز الروائي العربي عن سرد ذاته ومجتمعه ولحظته، كأنه يكتب «تحت وطأة ما يقرأ من الروايات العالمية.. بل إن بعضهم يكتب على إيقاع ما تمليه مراكز الاستشراق».
لكن هذه الحمّى في اقتحام أسوار العالمية عن طريق الترجمة، لم تقنع دوائر الثقافة العالمية بأهمية الرواية العربية كمنجز مستقل، على غرار ما فعلته رواية أميركا اللاتينية، والرواية اليابانية، لافتقادها الحامل الفكري والأدبي للأحداث.
ويعلّق صاحب «نهاية التاريخ الشفوي» أهميةً خاصة على التخييل الذاتي في إنقاذ الرواية العربية من ارتباكاتها السردية التي تتخبط بمعظمها في منطقة الحذر واللااعترافات، عدا اختراقات نادرة (محمد شكري في «الخبز الحافي» مثلاً). ذلك أن محكي الذات هو الرافعة التخييلية التي تعمل على نسف وتقويض فكرة «الكمال البشري» وفحولة الروائي التي ما زالت تلقي بظلالها على هندسة السرد. فالذات العربية ـ كما يقول ــ ولأسباب خارج إطار الكتابة الروائية «تبدو غير قادرة ولا راغبة على معانقة الحقائق»، ما أفرز نصوصاً بمنتهى الفجاجة والطهورية المصطنعة. بناءً على هذه المعطيات، يشير محمد العباس إلى أن الرواية العربية اليوم هي ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها حالة إبداعية أملتها النخبة. فهي نتاج الوقائع البشرية الجديدة ولغة الحياة الحيّة التي أطاحت تدريجاً اللغة البيانية المصقولة في مختبرات الأدب. ولعل هذا ما يفسّر الكم الهائل من كُتّاب الرواية الذين لا ينتمون إلى سلالة أدبية بقدر انتمائهم إلى ذواتهم الفردانية، من دون الالتفات إلى ضحالة الخيال. فالمادة الخام للأحداث هي المدماك الأساسي لهذا النوع من الكتابة التي «تحاول انتزاع نفسها من الهامش والتعبير عن وجودها في مدار التحولات». وهو ما أدى إلى «سقوط لاهوت الرواية القديمة بكل أركانها وأدبيتها»، وفرض شروط جديدة تجد تمثلاتها في إطاحة المقدّس والمحرّم وإعلاء شأن الذات، لكن بأدوات فنيّة هشّة.
بعضهم يكتب على إيقاع ما تمليه مراكز الاستشراق


على المقلب الآخر، نجد روايات متورطة في خطابات التغيير والحداثة بخط سير أفقي يجانب التعقيدات التي يتكفّل بها النص الأدبي. وإذا بها تستوي مع كل «المنتجات الثقافية ذات السمة التوصيلية المباشرة». وتالياً، فهي لا تحمل ذلك الأثر في اللحظة الكونية، كما لا تقترح من منظورها الفني أي تجديد يذكر. هي مجرد «صدى لحدث روائي عالمي على درجة من التسارع. وذلك نتيجة استنقاعها في مدارات ضيّقة محتّمة بطبيعة الفضاء الثقافي المحكوم بحضور ذوات ثقافية تؤسس بدورها بنية ثقافية مهترئة».
ولكن أين المفرّ؟ لا روايات خارج نفق النمطية، عدا بعض الكلاسيكيات والأسماء التي تُعد على أصابع اليد الواحدة، فالمشرط الذي يحمله الناقد هنا، لا يسمح بعبور الشاحنات فوق الجسر الضيّق للرواية المارقة. فالروائي العربي اليوم يكتب وهو «يصارع انهمارات تربك الهوية وتغوي الذات بالوقوع في مدارات الاستلاب. والأهم أنها تدمّر حسّه التاريخي وصداقته مع المكان». فما يحدث أخيراً هو «اللعب على تزوير الوعي والعبث بالذاكرة».