في كتابه السابق «الهوية والمعرفة، والمجتمع والدين»، يؤسس عبد الغني عماد مقاربته النظرية في تحليل المجتمع العربي. مقاربة كان قد وضع لبنتها الأولى في كتابه «سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة»، لتكتمل الثلاثية مع كتابه الجديد «سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» (مركز دراسات الوحدة العربية). والواقع أن المتابع لهذه الورشة البحثية منذ بدايتها، يجد نفسه أمام عمل علمي وأكاديمي ضخم متعدد الأبعاد. أهمية هذا الكتاب أنّه يضع إشكالية الهوية والمقاربات المختلفة حولها على منصة التشريح السوسيولوجي، مفكّكاً بعده الإيديولوجي ومؤثراته المختلفة.في الكتاب إحاطة نظرية ومعرفية متكاملة لإشكالية الهوية والأدبيات السوسيولوجية التي عالجت موضوعاتها، ربما لا يتسع هذا العرض لتقديمها. إلا أن ما أود التوقف عنده هو التحليل الذي يقدمه عماد لمسألة الهوية في الفضاء الثقافي العربي والتي لم تدخل عليها متغيرات متميزة منذ الثمانينيات وذلك بتأثير تحولات كبرى داخلية وخارجية.
ما كان سائداً هو كتابات ونقاشات تتعلق بمسائل التراث والمعاصرة والشريعة والدولة وغيرها مما شكل محاور أساسية في التفكير العربي. فقد بقيت المقاربة الهوياتية أحد تفرعات البحث في مسائل التراث والمعاصرة، ومتصلة اتصالاً شديداً بالمقاربة الأيديولوجية العقائدية العروبية أو الإسلامية الرامية إلى إحداث التغيير. ما حدث مع انهيار التجارب الأيديولوجية الكبرى في العالم وقيام نظام دولي جديد بمرجعية قطبية غربية من جهة، والانفجار المعلوماتي الهائل في وسائل الاتصال المعولمة من جهة أخرى، تواكب مع مقولات بدأت بتنظير فرانسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ» و«نهاية الأيديولوجيات». وما سينشره صموئيل هنتنغتون بشكل متزامن عن صراع الحضارات، أدى إلى ديالكتيك هوياتي جديد على مستوى العالم والمنطقة.
في هذا المدخل الذي يرسمه المؤلف، يذهب تحليلياً الى طرح مجموعة فرضيات منطلقاً من القول بأن مجموعة من المعطيات أسهمت في توليد صياغة جديدة للهوية في المجال العربي تعتمد «الدين» وحدة التحليل المركزية. وهو ما أفضى إلى تشويه الحقيقة وتفعيل الانتماء الهوياتي المتمذهب والانقسامي، على أنقاض المشتركات الوطنية التي فشلت الدولة العربية بكافة نماذجها في ترسيخها وحمايتها حسب تعبيره. بل إنّ بعضها أسهم بشكل مباشر في تفكيك ما تم تشكيله من بذور وطنية جامعة عند شعوره بخطر فقدان السلطة، فعمد إلى سياسات عصبوية وطائفية ومذهبية عمّقت أزمة الشرعية في هذه الدول من جهة، وأدخلت مجتمعاتها في صراعات دامية لم تنته بعد.
يستكمل عماد هذه القراءة بتحليل التحولات العميقة التي طالت بنية الدولة والمجتمعات العربية، وقد فاقمتها العولمة، وأدت الى المزيد من تعميق أزمة الشرعية في العالم العربي. أزمة فاقمها فشل مشاريع التنمية وغرق معظم الأنظمة في التبعية والهزائم المتتالية، هي التي اكتسبت مشروعيتها في الأساس تحت عناوين تحررية وقومية واستقلالية. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل اقترن بتحول الفساد إلى ثقافة متجذرة تحولت إلى ما يشبه النهب المنظم.
يفكك عماد الآليات التي اعتمدها النظام السلطوي العربي واستخدمها للهيمنة على مصادر الثروة في بلاده، وهي آليات أنتجت سياسات قادت إلى كوارث اجتماعية وإلى تهميش قلّ نظيره. إلا أن الكارثة الكبرى التي يشير إليها، تمثلت في اعتماده على آلة بطش وقمع حولت العنف إلى ثقافة وأيديولوجيا من جهة، وإلى المفاضلة والتمييز الفاضح بين مكونات المجتمع الأولية، القبلية والطائفية والمذهبية والإثنية. وهو ما أسهم في إحياء وعودة مسألة الأقليات إلى التداول من جهة، وعمقّ أزمة الشرعية لدى هذه الأنظمة من جهة أخرى.
يشرح الكتاب تلك الديناميكية الانقسامية التي تولدها هشاشة الدولة وتبعيتها، والتي هي نتيجة طبيعية رغم تضخم آلتها القمعية والأمنية. حال انكسار هيبة الدولة، ظهرت الولاءات والانتماءات «الأولية» لما قبل الدولة، وكما احتمت الدولة القمعية بأقليات إثنية أو طائفية أو مذهبية ممتدة خارج الحدود أو بمنظومتها الأمنية للدفاع عن مصالحها المهددة، احتمت في المقابل قوى الثورة بحاضنتها الشعبية وانتماءاتها وامتداداتها، وهو ما خلق تغذية متبادلة لصراعات اتخذت طابعاً هوياتياً ومذهبياً، استفادت منه الأجنحة الأكثر تطرفاً وأدلجة على الجبهتين، على حساب قوى التغيير والتحول الديموقراطي.
في مثل هذه الحاضنة تتم صناعة الهويات القاتلة ويتغذى الخطاب الهوياتي الدوغمائي المؤدلج. وعلى تخومه يتضخم حولنا ـــ حسب تعبير المؤلف ـــ كل أنواع الوعي الهوياتي المزيف الذي يكشف عن نفسه بوضوح تحت منطق التدخل الأجنبي والإقليمي المتنوع والمتعدد الذي تجلى في تشكيلات هوياتية مذهبية مؤدلجة عابرة للحدود، تتخطى ولاءاتها حدود أوطانها لتمتد على حدود المتخيل الهوياتي (الطائفي أو المذهبي)، ولتشكل في الوقت نفسه قوى رديفة للدولة، مندمجة فيها أو موازية لها.
بات الفساد ثقافة متجذرة تحولت إلى ما يشبه النهب المنظم


يرفض المؤلف التفسيرات الثقافوية الساذجة للهوية التي تعتبرها منتجاً تاريخاً أو أيديولوجياً محضاً، وفاعليها كيانات أيديولوجية منفصلة عن وقائع الاقتصاد والاجتماع والسياسة. فالمسألة في الأساس تتعلق بالأطر الاجتماعية التي يتحرك ويتغذى فيها الفاعلون الاجتماعيون، وبالأفكار التي يطرحونها والبيئة التي يتفاعلون فيها من جهة، ثم بمضمون هذه الأفكار والأساليب المعتمدة والتحديات التي يواجهونها من جهة ثانية. لهذا السبب يكتسب تحليل السياق التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي لأي جماعة أهمية خاصة، فعلى أساسه يحدث التفاعل مع الواقع ويتفاعل الأفراد مع الأفكار التي تمثل أجوبة على تحديات واقعية. يمكن لهذه الأجوبة أن تكون طوباوية، أو متطرفة أو إصلاحية أو ثورية أو حداثية، لكن بالإجمال ثمة أكثر من جواب واحد وأكثر من صيغة للتعبير عن «الهوية».
يعيد المؤلف الاعتبار للتحليل السوسيولوجي في المقاربة الهوياتية. ويعتبر بالتالي أن الأيديولوجيا وإن وظفت الموروث الديني، كرأسمال رمزي بما يحمل من فائض قيمة تاريخي وقيمي، إلا أنّ هذا الموروث، المتمثل في نصوص أو «طقوس»، والموجود منذ مئات السنين، لن يتحول إلى ايديولوجيا قاتلة، إلا في إطار اجتماعي- سياسي معاش. وبالتالي يمكن القول بأن المغذيات الحقيقية للعنف والتطرف، موجودة في الواقع الذي يعيش فيه الإنسان ككائن مفكر وفاعل. وهو واقع يؤول فيه القهر والاستبداد والتهميش السياسي والاجتماعي، إلى التشدد والتطرف والعنف بطبيعة الحال، والعكس صحيح في إطار جدلية التوليد والتغذية. خلاصة شديدة الأهمية تضعنا أمام معادلة: الدمج والاعتدال مقابل الإقصاء والتشدد. وبحسب نوع وشدّة المدخلات (قهر أو إقصاء أو محاولات إدماج ومشاركة...)، تكون المخرجات (تشدد أو اعتدال أو عنف مضاد..)، وتحتسب المحصلة على أساس مؤشرات سياسية واجتماعية وممارسات محددة قابلة للقياس.
في الواقع، يقودنا الكتاب لمواجهة المسكوت عنه في العقل الهوياتي «الأداتي» المؤدلج والمسيّس والمتمذهب، والذي نجح في تفكيك مساحات واسعة من المشتركات والجوامع الهشّة في الأساس التي تشظت وتحولت الى سرديات متخيلة قاتلة في ظل تجاذبات دولية وإقليمية كشفت أيضاً عن صراعات ومصالح آخذة في التشكل وفق منطق يوظف إلى أبعد مدى البعد الهوياتي. لا شك في أنّها خلاصات صادمة، لكنها سوسيولوجيا الواقع العربي البائس الذي يعكس ديالكتيك انقسامياً مريعاً، لكنه يؤكد في الوقت نفسه ــ وتلك هي المفارقة الجدلية ــ الحاجة الوجودية للهوية العربية الجامعة.
كتاب مهم في النموذج التحليلي الذي يعتمده وفي مفاهيمه ومقاربته لإشكالية الهوية العربية التي يقوم بتفكيكها على المستوى التحليلي والنقدي. يطرح رؤيته لوضع عربي كارثي انفجرت فيه عصبيات وتضخمت هويات طائفية ومذهبية وإثنية وتحولت الى ما يشبه الجماعات المغلقة التي يسود فيها «وعي القطيع» حيث لامكان للعقل في أغلب الأحيان.

* أكاديمية واختصاصية في سوسيولوجيا الإعلام والاتصال