يدخل الباحث إسماعيل الأمين في «خرافة الفتوحات العسكرية: دين ودولة أم دين وحضارة» (رياض الريس)، إلى عالمٍ دقيق في مجال الدراسات التاريخية: إنها إعادة دراسة التاريخ ومساءلةٌ المؤرخين التقليديين الذين كتبوه للمرة الأولى: هل فعلاً الحضارة الإسلامية جاءت فرضاً على شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)؟ سؤال شائك، خصوصاً مع الأسئلة الكثيرة التي تدور حول الإسلام وماهيته كدين حضارةٍ وتقدّم، أم دين دولةٍ تفرضه بالقوة. وهذا ما يشير إليه الكاتب حرفياً، بقوله: «يبدو من الضروري إعادة دراسة الانتشار الإسلامي منذ بدء الدعوة: هل تم هذا الانتشار عبر السجال العسكري أم اللاهوتي والسياسي. أم كليهما معاً؟ وما هو حجم الدور الفعلي لكلٍّ منهما؟».حكايةُ الكتاب قديمة، ولها تفرعات. بداية، يشير إسماعيل الأمين إلى أنه لم يؤلّف العمل، «إنما يكاد»، فالكتاب (بحسب مقدّمة الناشر) ألّفه عالم الدراسات القديمة والمؤرخ الإسباني المعروف اغناسيو أولاغي. صدر للمرة الأولى عام 1974 تحت عنوان «الثورة الإسلامية في الغرب»، ثم أعيدت طباعته عام 1969 على شكل ملخص فرنسي بعنوان: «العرب لم يجتاحوا إسبانيا أبداً» للفرنسي جان بايير (بإشراف أولاغي بنفسه). اللافت أن هناك نسخة عربية صدرت منه تحت عنوان «العرب لم يغزوا الأندلس»، لتعود هذه النسخة لتصدر معدلة ومنقحة اليوم على الشكل الذي نراه أمامنا.
الكتاب الماثل أمامنا - ونعود هنا إلى مقدمة الكاتب- هو «ملخصٌ مترجم بتصرف» للكتاب الأصلي. يشير الكاتب إلى أنّه عمد إلى «التصرف» به لتبسيطه وتنقيته من التعقيد النظري وتلخيصه كي يصبح موجوداً بسلاسةٍ بين يدي القارئ العربي. أبرز ما يقدّمه الأمين في الكتاب أنه لا يخلص إلى النتائج المتطابقة مع ما خلص إليه المؤلف الأصلي، إذ يشير: «لم يتّسم عملنا بالأمانة الخالصة (يقصد في النقل)، ففي كثيرٍ من الأحيان استخدمنا معلومات ومقدمات وكذلك منهج المؤلف للخلوص إلى نتائج لا تتطابق تماماً مع ما خلص إليه». هو يعمد إلى استخدام أسلوب المؤّلف الأصلي ذاته في المنهاج: «يقول المؤلف إنَّ الإيبيريين لم يحتاجوا إلى أكثر من تعديلات طفيفة على معتقداتهم الآريوسية خلال القرن الثامن ليتحولوا إلى الإسلام، ونحن بدورنا لم نقم إلا بتعديلات طفيفة، على استنتاجات أولاغي لتصبح فكراً خالياً من شوائب الاستشراق». يبدو الأمين باحثاً واثقاً أكثر من كونه مترجماً ــ سواء بدقة أو بتصرّف- وهذا هو السبب الرئيس في أهمية الكتاب.
ينقسم العمل (بعد مقدمة الناشر والتوطئة) إلى قسمين رئيسيين: الإشكالية التاريخية المطروحة، متناولاً أسطورة الفتوحات، ونقدها العام، ليدخل لاحقاً إلى مقدمات لفهم انتشار الإسلام. أما في القسم الثاني، فيبدأ بتشريح الثورة الإسلامية في الغرب (كما يسمّيها بدقة)، ويتنقّل بين فروعٍ كثيرةٍ لهذه الثورة: الأزمة المناخية، المركب الديني المعقد، وصولاً إلى الأزمة والتطور الفكري في شبه الجزيرة الإيبيرية (المسيحية الثالثوثية والمسيحية الآحادية). كل هذا أودى إلى حالة عامة تمهد للحضارة العربية الإسلامية، وصولاً إلى انتشار الإسلام المرفق بمقاومة مسيحية. ينتقل الكتاب في القسم نفسه إلى منشأ خرافة الغزو، ليتوقف في النهاية عند «مسجد قرطبة» لما له من أهمية كبرى. إذ يشار إلى أنَّه بني فوق «بناءٍ قديمٍ ذي أهمية من نوع معبدٍ روماني أو كنيسةٍ مسيحية». يشرح الكتاب كيف أنَّ الشرق كان المنبع السخي للأفكار «فهو الذي صنّع ونمّط العصور التي كانت حينذاك مستقبل الإنسان» مقارنة بالغرب الذي لم يشهد - رغم وجود امبراطوريات عظيمة به كروما - ازدهاراً لحضارات «عقلية» وثقافات دينية مؤثرة مع أنّه قدّم شخصياتٍ متميزةً مثل الإمبراطور ماركوس أغسطس تراجان، والفيلسوف لوكيوس سينيك. لكن «لم تزدهر في زمن هؤلاء أيٌ من الثقافات المبتكرة، التي تحتاجها الإنسانية في تقدّمها».
يغوص في تفاصيل وصول الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية


في الإطار عينه، يخوض الكتاب النقاش الأبرز: هل كان هذا دين حضارةٍ أم دين دولة؟ يؤكد أنَّ «الثورة الإسلامية أرسى الرسول قواعدها شاملة بعمق، بحيث أصبح الجانب السياسي منها ثانوياً». هذا يعني أنَّ التغيير الذي حدث كان عميقاً، إلى درجة أنَّه يمكن أن يحكم باسم هذا الدين «مرتزقٌ» أو «طاغيةٌ» في مرحلةٍ ما، لكن المبادئ تبقى على حالها، والناس يعرفون ذلك، ويفهمونه ويدركونه. وبالتالي، يعرفون بأنَّ هذا الرجل «مارق»، وبأنه لا يمثّل الدين الحقيقي، ولا يشبهه. هذا الأمر صعبُ – بحسب الكتاب - على المؤرخين: «ومن هنا يتضح كم عانى المؤرخون، فيما بعد، لتفسير النتائج المترتبة على هذه الأحداث. لقد أنجز الإسلام تغيير المجتمع ببلبلةٍ أقل بكثير من البلبلة التي عانى من المؤرخون. لم يكن دين ودولة، إنما دينٌ وحضارة». يشرح الكتاب الاختلاف بين سكان المدن/ الحضر (نقلوا الدين للعالم) وبين البدو، إذ يستعير تعريفاً من المستشرق الفرنسي مارسي ويليام يقول بأنَّ البدو عموماً لا يظهرون رغبةً شديدةً في المغامرات. من هنا فمن أدخل الثورة الدينية إلى المدن في الجزيرة ثم الشام وبغداد كان الحضر، «فيما اكتفى أبناء الصحراء القبلية باعتناق الدين. وربما شكّل بعضهم فرقاً صدامية. لكن أكثريتهم لم تخرج من الصحراء». يغوص الكتاب في تفاصيل وصول الدين الإسلامي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، مفصّلاً البعدين التاريخي والجغرافي في تلك المنطقة وصولاً إلى الجيوسياسي. المعركة لم تكن معركة ثقافاتٍ ولغةٍ كما يعتقد بعضهم، فالإسلام وصل، ولم يكن سبب هزيمة خصومه هو «العنف» إنما «ضعف المسيحية الأولى في إيبيريا، وتدخلات الأساقفة الحمقاء من خلال المجامع، وإصرارهم على التعامل مع أولئك الذين لا يبحثون سوى عن العيش بسلام، كأعداءٍ للمسيحية، وتجاوزات السلطات المدنية». مع ذلك، لم يكن ذلك كافياً لحدوث «اختفاء» الحضارة المسيحية من ايبيريا لقرون عدة. أما السبب الحقيقي، فهو «أبعد من ذلك بكثير. لقد تعرَّضت إيبيريا إلى تنابض تناوبي مناخي مخيف، أدى إلى بلبلة اقتصاد المنطقة، وبالتالي إلى مجاعةٍ استمرت طويلاً». كل هذا امتزج مع بعضه، في بحثٍ حثيثٍ عن بديل ليس ثقافياً فحسب، بل حياتياً. كان هذا البديل ببساطةٍ هو «الإسلام» لا كثقافةٍ فحسب، بل كأسلوب حياةٍ كاملة.
باختصار، يحاول الكتاب سبر أعماق تلك المرحلة التاريخية، وكيفية وصول دينٍ «مختلفٍ» إلى أرضٍ مختلفة، وبقائه هناك لسنواتٍ رغم الاختلافات الثقافية والعرقية وحتى النفسية/ الشخصية. يبدو الجهد الذي بذله الأمين في التعامل مع النص الأصلي، والإضافة عليه وحتى الخلوص إلى نتائج مخالفة للنتائج الأصلية، كبيراً وناجزاً. من هنا يمكن اعتبار العمل ضرورةً للمكتبة العربية كما للقارئ الراغب في المعرفة.