في نهاية ١٩٧٨، أبدى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926 ـــ 1984) حماسة منقطعة النظير للثورة الإيرانية. مقالاته في بداية أحداث إيران، قوبلت بأكبر كمية من المساجلة والاعتراض في نتاجه برمته. قبل شهر، نشرت مجلة L›O.B.S حواراً أجرته مع فوكو عام ١٩٧٩ ولم ينشر قط... اكتُشف الحوار هذا الصيف في الصندوق رقم ٥٠ من أرشيف فوكو في المكتبة الوطنية الفرنسية، وتبدت أهميته في راهنية ما طرحه من نقاط قد نستعين بها اليوم، بعد أربعين سنة من تاريخه، طالما أن قضية الإسلام السياسي لم تُسحب من السجال بعد.
في قلب الحماسة، يحتفظ فوكو بفكرة جوهرية يمكننا التقاطها في معظم مؤلفاته: في مواجهة أي سلطة، يجب أن نصغي لمن يقاوم هذه السلطة، وينتفض ويعترض. يسمي فوكو إرادة الرفض هذه بالروحانية، التي يمكنها لبوس المذهب الشيعي بوجه سلالة بهلوي، أو ثوب البابا بولس الثاني بمواجهة الأنظمة الستالينية، أو النضال البيئي بوجه الرأسمالية. إرادة لا ينبغي محاكمتها بل تلقفها والتفكير في كيفية العمل من داخلها. لراهنية هذه الطروحات، ترجمنا الأجزاء الأساسية من هذه المقابلة:


■ لقد كتبتَ في Nouvel Observateur، أثناء تحقيق أعددتَه عن إيران، أن هذا البلد يبحث عن الآن عن شيء افتقدناه، نحن الغربيين، منذ عصر النهضة، وأزمة المسيحية. هذا الشيء أسميتَه «الروحانية السياسية»، وهذا المصطلح فاجأ كثيرين. هلا شرحت لنا؟
فوكو: عندما كنت في إيران، أوفدت مجلة أسبوعية فرنسية مراسلتها الى البلاد، وقد أنجزت تقريراً، ينتهي ـ كما هو حال كل التقارير عن إيران ـ بتأكيد حضور التيارات الدينية، التي يبدو أنها تجتاح الشعب الإيراني بأسره. لقد قرأت التقرير قبل أن يُرسل لباريس. حين تمت طباعته، أضاف المحرر صفة «المتعصبة» لهذه التيارات. وبالتالي، هل على الناس الذين يحاولون فهم ما يحصل في إيران أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يشيروا إلى وجود هذا التيار الديني أو ذلك التيار الروحاني؟ أم أنه حريّ بأولئك الذين يتصرفون بهذه التفاهة أن يوضحوا الأسباب التي تدفعهم إلى مقاومة فهم ما يحصل إلى هذا الحد؟ كنت أحاول أن أعرف ما كانت القوة، وما هي دائماً القوة التي تستنهض شعباً كاملاً أعزل، بوجه نظام بشع، رهيب، ومدجّج بجيش وجهاز شرطة بمنتهى الجبروت. لا أعرف إن كان هذا الشعب يمتلك سلاحاً، ولكن لو صح الأمر، فإنه من المؤكد أنه مستتر وبكميات قليلة، لأنه لم يُستعمل حتى اللحظة بينما في كل يوم هناك العشرات من القتلى. ما هي إذن هذه القوة التي تستوجب إرادة شديدة، عنيدة ومتجددة للنهوض كل يوم، وقبول التضحيات، التي هي تضحية الأفراد أنفسهم الذين يقبلون الموت؟ من الواضح أننا لن نعثر على الإجابة عند الأيديولوجيات السياسية من النوع الماركسي، أو الأيديولوجيات الثورية بالمعنى الغربي للكلمة. علينا أن نبحث في مكان آخر.

■ الفرضية الأكثر رواجاً اليوم في أوروبا حول أحداث إيران، تتحدث عن نوع من التحديث الفائق السرعة. لماذا إذن علينا أن نلبس هذا الواقع نوعاً من الأحذية كالتي تشير إليها، لتتجاوزه إلى ما هو أبعد؟
فوكو: أولاً، ليست هذه بالأحذية، وبالتالي لا يتعلق الأمر بالتجاوز. هناك حقيقة. كان يمكن للشعب الإيراني القول ببساطة: لا شأن لنا بهذا التحديث، هذا النظام يفرض علينا نوعاً من التطوير، أو الأشكال السياسية التي لا طاقة لنا بها، ولا نريد أن ندفع هذا الثمن مقابل التحديث المفروض علينا. كلمة في البداية حول التحديث. ما يجري في إيران حالياً، ليس بالتحديث، بل هو نوع من الرجعية. هذه الرجعية هي «الأتاتوركية» التي أرساها كمال أتاتورك في تركيا قرابة ١٩٢٠ ولما تتوقف سلالة بهلوي عن مطالبة نفسها بها منذ الأربعينيات، أي نوع من إعادة التنظيم لهذه المجتمعات الإسلامية، أو المسلمة، على نمط مستوحى بشكل أو بآخر من الغرب. ثم إنه في الشرائح الأوسع من الشعب، أي من المثقفين إلى عمال المصانع في عبادان، ومن تجار البازار في طهران الى المزارعين في شرق إيران في المناطق النائية عن المركز، ما تتم المطالبة به من رجال كالخميني وغيره من الزعماء الدينيين، هو الإسلام. نوع مختلف من الحياة، ليس بالحياة القديمة التي هي نقيض الحياة الحديثة، بل نوع خاص من الحياة المرتبطة بالدين. أظن أنّ هذا واقع لا يمكننا إنكاره ولا أعرف كثيراً ممن يأتون من إيران ويقولون نقيض ذلك. إذاً، تكمن الإشكالية بنظري، في معرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بوهمٍ يصنعونه حول أنفسهم، وما إذا كانوا يؤمنون حقاً باستنهاض القيم الدينية، أم أنّهم ببساطة يشرحون بواسطة التعبير الوحيد المتبقي لهم بؤساً مرتبطاً بالوضعية الراهنة.

الفكرة الغربية الجذرية لهذه الديمقراطية، قد تأتي لتعزز أخطار الأصولية الدينية

■ ما شاهدتَه في إيران إذن سمح لك ببناء فرضية تقول إن العامل الديني قد يتحول في ظروف معينة إلى فضاء تمرّد لمواجهة الدولة؟
فوكو: حين أتكلم عن الروحانية، لا أتكلم عن الدين. يجب الفصل بين الأمرين. أشعر بالدهشة حين أرى أن الروحانية، والروحية والدين تشكل في عقول الناس التباساً عجيباً. الروحانية شيء يمكننا العثور عليه في الدين، لكن أيضاً خارج الدين، في البوذية التي هي دين بلا لاهوت، وأيضاً يمكن إيجادها في الحضارة الإغريقية. لا ترتبط الروحانية بالضرورة بالدين، رغم أنّ معظم الأديان تحتوي على بعد روحاني. ما هي الروحانية إذن؟ أظن أنّها تلك الممارسة التي ينتقل بها الإنسان، يتحول، يضطرب، حتى يتنكر لفردانيته الخاصة، لوضعيته الخاصة كفرد من الرعية. أن لا يكون كما هو حاله حتى اليوم جزءاً من الرعية بالنسبة لنظام سياسي، بل جزء من علم، من تجربة، من إيمان. أظن أنّ الإمكانية للنهوض بالذات ضد وضعية الرعية التي يسعى نظام سياسي أو ديني، أو دوغما معينة، أو إيمان جامد، أو عادة ما، أو شكل اجتماعي، هي الروحانية: أي أن نصير غير ما نحن عليه الآن، غير ذواتنا الحالية. من المؤكد أن الأديان هي فضاء استقبال لهذه الأشكال والممارسات من الروحانية، وتشكل أيضاً حدوداً لها. تحدد الأديان ما الذي يجب أن نؤول اليه، الى أين يجب أن نتجه، أي وضع جديد يمكننا أن نحصل عليه. في الواقع، تشكل الأديان تشفيراً للروحانية.
■ هناك بالتأكيد ديكتاتورية متمثلة بالشاه، بجهازها الأمني الذي يقمع، وسجونها الممتلئة. لكن في المقابل، نرى داخل المذهب الشيعي مجموعة من التطلعات التي يشتد عودها، وتنتظم، وتأخذ موطئ قدم، بحيث لو سقط النظام، يمكن أن تنحو الى نوع من التشدد المثير للرعب وتصبح أشد قمعاً. هل هذه دموع التماسيح التي نراها الآن؟
- فوكو: أتذكر جيداً في النص الذي كتبته منذ وقت قصير حول إيران، أن ما رواه لي كثير من الإيرانيين حول هذه المشكلة، توفّر على نقاط مقلقة وخطرة؛ كأن تجتمع بشكل مثير للفضول، كل الأخطار المنبثقة من نماذج حكم متأثرة بالغرب، بتلك التي تنبثق من داخل الحكم الديني. مثلاً حين نطرح سؤال: «ماذا عن الأقليات الدينية في ظل حكومتكم الإسلامية؟»؛ من جهة هناك الإجابة الكلاسيكية، التافهة، التي نعرف كم هي خطيرة، أي إجابة القرن الثامن عشر، كأن يجيبوا: «حسناً، إن الأكثرية حين تخط القانون، ستحدد الوضعية التي ستعطى للأقليات». نعرف جيداً ما أفرزه سابقاً هذا النوع من الأجوبة. في المقابل، هؤلاء الأشخاص أنفسهم يشرحون لنا أن هناك مجموعات دينية، كالبهائية، يعيشون ديانة يتم تجاهلها وقمعها تماماً، بحيث أن التسامح مع هذه الأقلية غير قابل للنقاش. إذن، سترى هنا في العمق، أن الفكرة الغربية الجذرية لهذه الديمقراطية الرزينة، قد تأتي لتعزز بشكل ما أخطار الأصولية الدينية. الإيرانيون ممن تحدثت معهم يعون هذا الأمر، والإشكالية هي في أن يعرفوا، إن كان بمقدورهم بواسطة هذا الإسلام، الذي هو في الوقت عينه مرآة تقاليدهم، وشكل وعيهم القومي وأداة نضالهم ومبدأ نهضتهم، أن يستمدوا شيئاً يعينهم على درء هذه الأخطار. إذن، لا أظن أن القول لهم باستمرار: «إنكم تراهنون على إسلام يحتمل كل أخطار الأصولية، وهو بالمحصلة، ديانة توحيدية وبالتالي، غير متسامحة، الخ»، لا أظن أن توجيههم بهذا الشكل من العدائية، أو اتهامهم بالتعصب، سيؤتي ثماراً. إنهم ليسوا بالمتعصبين، لكن بالتأكيد، هناك خطر للتعصب حين ينتظم هذا الحراك في دولة دينية، أو في شكل دين لدولة. في العالم الحالي وهنا أتكلم من أجل الإيرانيين وغيرهم، تكمن المشكلة في معرفة ما يمكننا فعله بإرادة الروحانية هذه التي ظهرت بشكلها العاري تحت أنقاض الآمال الثورية الكبرى، وتتجلى هنا بالإسلام، وقد تتجلى هناك بالمسيحية أو بغيرها.

■ بانتخاب الحبر الأعظم من بولونيا مثلاً؟
- فوكو: مثلاً. أو في النضال البيئي. هناك الآلاف من أشكال النضال التي تبدو ضبابية أحياناً، وغالباً ما تكون مقلقة، مؤثرة في النفس تارة، أو سطحية، أو صادمة طوراً، لكن في كل الأحوال لا يعوزها الإصرار في هذا العالم المعاصر.

■ ماذا عن المذاهب؟
فوكو: ماذا يمكننا فعله في هذا المضمار؟ بدل أن نحاكم هذه المذاهب باسم أيديولوجية خانت هي الأخرى كل هذا التراث العظيم للروحانية، لنرَ كيف نعمل من داخل هذه المذاهب. لقد تطلب الأمر قرنين لتتمكن روحانية من داخل المسيحية ـــ لكنها كانت تدير ظهرها للكنيسة بالكامل ـــ أن تغير قليلاً، أو لنقلها بصراحة، لقد غيرت الكثير من الأشياء في الغرب. حالياً، في الحطام الذي نحن وسطه، لا أتوقع أن تتضح الرؤية قبل أعوام عشرة، أو خمسة عشر. وبعدها سيتكرر الأمر، لكن ليس بشكل ديني، رغم أن هناك أشكالاً دينية ستبقى هنا وهناك. الأمر سيكون حقل تجربة هائلاً، على مقياس قرن على الأقل، إن لم يكن أكثر. هذا ما يجب فعله!

■ فلننتظر إذن...
فوكو: كلا، لا أن ننتظر، بل لنطبّق. فلنطبق النهوض، أعني أن نرفض أن نكون ما نحن عليه كجزء من رعية، من هوية، من سُكون، أن نرفض وجودنا بما هو عليه الآن. إنه الشرط الأول لرفض العالم القائم.