في روايتها «حوض السلاحف» (دار الساقي)، تعرض الكاتبة اللبنانية رولا الحسين تجربة امرأة في سجن نساء، تجعل من السجن تصويراً ناضجاً لعزلتها، وسبيلاً من سبل الانقطاع عن سيل الحياة اليومي والصاخب. لا تكتفي الكاتبة بإغفال ظروف اعتقال شخصية الرواية المجهولة الاسم، ولا بإغفال حياتها الكاملة خارج البوابات، بل تجعل تجربة الاعتقال أشبه بالفجوة في حياة الراوية. فجوة تدفع القارئ إلى التركيز على ما تريده فقط، عبر شرح مسهب لساعات حجزها؛ فالرواية بالكامل تدور في رأس الشخصية الرئيسة، تشبه عيناً دخلت إلى جغرافيا مجهولة ثمّ بدأت مسحاً شاملاً من دون الاكتراث لانتخاب ما هو فني من مشهد نُقل طبق الأصل، إذ تنقل الراوية المشاهد التي تحدث أمامها كأنّما السرد لديها مجرد كاميرا مثبتة في إحدى زوايا السجن. تسجل ما تراه بعين محايدة وتفاعل بالحد الأدنى مع ما عاشته ومع من أمضت الساعات برفقتهن؛ محبوسة في بلد مجهول، ما ان تصل مطاره حتى تؤخذ إلى أحد سجونهِ.
إذاً، القارئ إزاء شخصية منتزعة من حياتها المجهولة ومرمية ضمن ظروف غير محددة إلى سجن خانق بالغ الوضوح والتأثير.

يخرّب هذا البناء على قارئه متعة التداعيات التي قد تنشغل بها أنماط كتابة مشابهة. في الوقت نفسهِ يترك قارئه مأخوذاً بشعور الانخطاف، وبالتجربة المسهبة والمثيرة، سيما أنّ الكاتبة جعلت من شخصية روايتها راوية منفردة، ترى العالم بعينها وتنطقه بلسانها. تبدو شخصية شديدة الوفاء لظروفها، إذ إنّها ترتبك عندما تسأل عن شؤون الحياة في السجن، وتسمح للآخرين باتخاذ القرار عنها. ثم ما تلبث أن تندفع إلى اتخاذ قراراتها الخاصة، إلى درجة تتساءل إن كان وجودها وفق ذلك الشكل المباغت في ذلك المكان الغريب، لتأدية رسالة، راحت تفكر بطبيعتها؛ مرنة بما يكفي للاعتقاد أنّها محكومة بالمؤبد، ومتفاجئة بالحد الذي يُشعِر أنّ تجربة الحبس تحدث لامرأة سواها.
في متجر أثاث قديم، تقف الراوية وتتأمل ثلاث سلاحف في حوض زجاجي متسخ ومياهه عكرة. ثلاث سلاحف «لا تتحرك، ولا تنظر تجاه أي شيء. عيونهن في أماكنها، لكنهن لا يستخدمنها للنظر. عاجزات تماماً». ثم في طريقها إلى المنزل، تفكر لو أنّها أعادت السلاحف إلى البحر. وفي الحبس، تحسدهن لأنّ السلحفاة تحمل بيتها معها، وهي «ليست سلحفاة». تجرب أن تصنع من الغطاء خيمة لتحول هذه الخيمة إلى قوقعتها الخاصة، وتتنبّه لإمكانية أن تكون سلحفاةً، ثم لتنتهي بالقول «أنا سلحفاة» وذلك عندما تبلغ تجربة السجن أوجها ويصير هدوء حركة الراوية تعبيراً عن السرعة التي راح عقلها يعمل وفقاً لها.
تغيب الأسئلة الكبيرة عن «حوض السلاحف» بغياب سبب الاعتقال، والذي يبدو أمراً إجرائياً قرره أمن المطار. تنشغل الراوية بحشد كبير من الأسئلة الهامشية والواقعية.

تجعل من السجن تصويراً ناضجاً لعزلتها

أسئلة عن معجون الأسنان والطعام والساعة التي يبدأ فيها الصباح، وكيفية بدء الصباحات في السجون. تتساءل عن توزيع حصص الطعام وتشغلها أنواع الفواكه التي ترافق الوجبات. تتساءل عن الدور المتبع في التنظيف، وطريقة توزيع ساعاتها في الحبس. تتساءل عن الأغطية والروائح وطرق نزع الشعر، والأسباب التي تدفع النزيلات إلى التزيّن وصبغ شعورهن. تفكر في مساحة الزنازين، في وحدة القياس وهي البلاطة، وتحسب قياس البلاطة ذاتها. وفي غمرة هذه الأسئلة التي بدت أنّها لا تنتهي، بدأت تشعر بضيق الوقت، والساعات التي ما كانت تعرف كيف ستمضي. باتت لا تود أن تنتهي قبل أن تجد أجوبة عن الأسئلة التي لا تشغل بال أحدٍ سوى من اضطر إلى أن يرزح تحت وطأتها.
في السجن الذي تشغله نسوة من جنسيات مختلفة، تسألها إحداهن إن كان لديها «أصدقاء حقيقيون؟». تشعر بالراحة كونها تملك أصدقاء حقيقيين. لكن في رواية التفاصيل الهامشية، يطفو حدث وحيد عدا حدثي إغلاق البوابات وفتحها. إنّها الرسالة التي تبعثها الراوية إلى كلّ من صلاح صديقها الذي أرادت مفاجأته بقدومها، وأختها ليلى في البلد الذي قدمت منه من دون أن تخبرها بأمر السفر. تبعث الراوية رسالة إليهما تخبرهما بأمر احتجازها، ثم تسلم الموبايل للأمن قبل أن تعرف إن كانت الرسالة قد أرسلت لرداءة التغطية. تغيب من دون أن تعرف إن كان أحد ما بات على علم بأمر اختفائها، ويترك السؤال عن احتمال وصول الرسالة، آثار قلق في الرواية المطمئنة بما يشبه هدأة المحكوم بالمؤبد، رغم بقائها لساعات رصدتها الكاتبة كما لو كانت دهراً.
لا تظهر انحرافات قصوى على سلوك السجينة، إلا أنّها في إحدى جولاتها إلى الحمام، وفي طريق عودتها إلى السرير الذي تتشاركه مع فيليبينية، تلمح الموضع الذي افترشته على أرض السجن عند وصولها. تجد نفسها تنظر إليه وفقاً لتعبيرها: «كأنني أزور الماضي». على هذا النحو الذي يدعو للأسى، يبدو انتراع إنسان من حياتهِ أمراً ممكناً، كما لو كان في انتزاعهِ من محيط غير آبهِ بهِ نوعُ من العزلة المشتهاة.