العالم كبير، والأوطان رحيمة وهادئة بأنهارٍ وجبال كثيرة ومدنٍ آمنة تنشر أعضاءها فوق تجاعيد الخريطة. وأشجارٍ تتساقط خلف عجلات الطريق كأفكارٍ خارجة للتو من خيالات رخوة. وحدائق ضاجّة بأطفال يجرّون الفرح من أذنيه الطويلتين. وعشّاق يمسحون غبار الذاكرة بمناديل ورقية معطّرة وحواجب متأهبة للإفصاح عما جرى. حتّى البيوت الوطيئة والأكواخ المنفردة في الضواحي تبدو ليلاً مثل بحيرات بأصابع لامعة ومايوهات سباحة متخلّى عنها، فيما الصيّادون يداعبون سمك الشابل بقصبات معقوفة، وحنانٍ محسوب مدحرجين كرات الخيال الملوّنة بعود المزاج وشاي النار الهادئة.
أفكار كثيرة تتساقط من السماء في الليل. الله يفتح النوافذ ويلقي بها إلى العباد بلا حساب. أفكار أخرى تضيع في التواءات الوديان وتجاويف الجبال والطرقات. يدوسها العسس والسكارى بالأقدام، فيغضب الله وتنبح الكلاب ويسود الظلام. الكلاب وفيّة لأصحابها، وجميلة حتّى عندما ترفع رجلاً وتتبوّل على جذع شجرة.
الليل جميل، أيضاً، بأفكاره وأخيلته التي تحوم حول رؤوس الشعراء والفلاسفة والصيادين. الملاعين وبقية المطرودين من عرصات الحبّ والحنان، عكس النهار الذي يبدو بئيساً مثل موظف الأرشيف الجالس في الدرج الأخير من سلّم الوظيفة بهيئة مشوّشة ووجهٍ مسحوب الدم، سترته الرمادية مغبرة وحائلة اللون وظهره مقوّس من فرط الانحناء لرئيس العمل، فيما أزرار قميصه منزوعة بالكامل بسبب عراك دائم مع الحياة. وما هي الحياة ؟ أن تملك بيتاً تعود إليه في المساء بأكياس الفواكه والهدايا. زوجة وأولاداً يقشّرون النهار بالضحكات والليل بالشخير. وراتباً شهرياً تسحبه على فترات من الشباك الأتوماتيكي، تدسّ المال في الجيب وتستدير بسرعة محترساً من اللصوص. أن تجلس مع الأصهار في صالون ضيّق بلا نافذة وتثرثر عن الطقس وغلاء المعيشة كأيّ أبٍ مهتم بمصير الأولاد. وتقترب كل مساء من نفس المرأة الغلبانة، وتلتصق بجسدها مثل قنفذٍ وتتوهم أنك مهم وسعيد.
أحبّ أن يأتي الليل ويجدني ممدّداً فوق السرير بسترة رياضية، أحكّ رأسي وأستعيد كل شيء تقريباً، فالقهوة تحرّك الذاكرة بقضيبٍ رقيق وتدفع الأفكار البعيدة إلى مقدّمة الرأس وتزيل تعب الوظيفة من المفاصل وأسفل القدمين، والقهوة تشبه الناي الذي يعزفه عليه أحدهم في ساحة عمومية لتخرج الثعابين من صندوق خشبي وتتلوى فوق منديل أخضر فيما أنا واقف في زحام الدائرة بفمٍ فاغر وسروال دجينز ممسوح. أنهزم مع أبخرة القهوة فأغدو رومانسياً أكثر من اللازم لدرجة أكون مستعدّاً لتوقيع شيك على بياض، خصوصاً في ليالي الشتاء الطويلة عندما ينقر المطر بأصابعه الرقيقة على نوافذ الشعراء والعشّاق وبقية المبعدين. ويتحرّر أبطال الروايات المطّوّلة من قبضة السارد المتجهّم فيتحركون في شوارع المخيلة دون ضجر.
يكفي أن يأتي الليل كي أرفع رأسي إلى السماء وأشكر الله. هناك من يقول إنّ الله يوجد في كلّ مكان، ويسير جنباً إلى جنب مع النّاس في الأسواق ويجلس معهم حول الطاولات في المقاهي والبيوت دون أن يأكل أو يشرب شيئاً، لكن لم يحدث إطلاقاً أن سمعتُ أن الله صفع لصّاً على وجهه أو جرّد حاكماً جائراً من سرواله ونكّل به في ساحة عموميّة، أو سكب سطل ماء ساخنٍ على آخر وسلق وجهه أمام كاميرات العالم . هذا يعني أن الله رحيمٌ بعباده أكثر ممّا يعني أنّ كاتب هذه السطور ملحدٌ وشكّاك.
أعود إلى البيت كأيّ مواطن محظوظ بغرفة وسيعة وسرير ريشبوند ناعم بمرآة لاصقة في الظهر كشاهدة قبر. وطاولة الليل بكرسيين متقابلين كعاشقين ودودين. وخزانة كتبٍ حيث الشعراء يسهرون فوق خشبٍ مدبّب، وحزن الفلاسفة ساطع مثل تهمٍ ثقيلة. مواطن أعزب يستهلك الكثير من البطاطس ويسدل الستائر باكراً ويتأكد من إغلاق الباب وسدّادة الغاز قبل أن يشتري تذكرة خيال ويسافر، كأن أصل إلى أماكن بعيدة وأسهر فوق خشخاش الوديان دافعاً مركب رامبو السكران إلى الأعماق. وأغيّر الأفكار والقناعات كأيّ محتال بابتسامة جانبيّة وقميص بأزرار علويّة مفتوحة.
وحتّى عندما أهمّ بوضع المفتاح في ثقب باب الحياة الجديدة حيث زوجتي بشعرٍ هفهاف وخدود الورد، وابتسامة مندلقة في صحون المطبخ الصافيّة. وأطفال يقشّرون تفاحة الفرح حول طاولة العشاء المضبوطة على عقارب العاشرة، بينما مقدّمة نشرة الأخبار في التلفزيون الحكومي ترفع صوتها كلما تعلّق الأمر بشؤون الوطن. غير أنّه كلّما أكمل المفتاح دورته الأولى في ثقب الباب، انتبهتُ كم أنا غامض ومحيّر مثل لغز. وأنّني لا أصلح إطلاقاً لهذه الحياة العسكرية حيث الجنود يبتسمون في وجه الجنرال. ليس بالضرورة أن يكون الأطفال هم الجنود، وأن تكون زوجتي العزيزة هي الجنرال بأكتافه العريضة، في الوقت الذي لستُ معنيّاً بالمرّة بهذه الرتبة العسكرية الرفيعة.
فرصة أخرى هذه الليلة كي أجوس أرض الإنترنيت الوسيعة وشارع الفايسبوك الأزرق، حيث اجتمع ما تفرّق في الأوطان والخرائط. الماركسيون بعيونٍ ذابلة من شدّة السهر على الأفكار الجيّدة. والثوريون بقبعات تشي غيفارا الذي يتجوّل بدرّاجته النارية في الرؤوس. ورسامو كاريكاتير الوجه العربي بأصابع مرتعشة يمسحون رأس حنظلة الجالس فوق مصطبة الألم بيدين معقوفتين إلى الخلف. فيما ماريستانات حقيقية بأشجارٍ مورقة وأعشاش بفراخٍ كثيرة، وغرف متباعدة يأوي إليها مرضى يسقون شجرة الحياة الذابلة بسطول مثقوبة وأعصاب مفقودة ونظرات زائغة. الشعراء يظهرون بعد منتصف غرينيتش حيث الليل يغدو شفافاً كلّما تقدم بعكازه الأسود في اتجاه النهار متأبطاً أحلام الفقراء والمسحوقين التي تنبجس من مخدّات مفشوشة. العموديون بحماسة الأجداد المهدورة وبقايا قوافل مرّت من هنا، ونساء يمخضن اللّبن أمام خيام القبيلة. بينما الأحرار يقلبون أوزان الفراهيدي المكسّرة بمطرقة السياب وأسنان نازك الملائكة الحادة. وأيضاً مجانين قصيدة النثر الذين بعثرتهم كرابيج حكّام العرب في عواصم اللجوء وتحلقوا حول جرائد المهجر مقاومين البرد بالحنين، والغربة بالقصائد والسخرية المندلقة من الأشداق. وصولاً إلى الشّاعر (الوهم ؟) الذي يتعقبني من مقهى إلى آخر مثل مخبرٍ عنيد، فأحكّ جبهتي بداخل أصابعي. وأدور حول نفسي كثورٍ هائج قبل أن أحكم قبضتي على صدره العامر بالنيكوتين وأرجّه طويلاً حتّى تدمع عيناه وأهوي عليه بكلّ ما أوتيت من قوّة حتّى تتكسر أسنانه النخرة وتخرج منه قطرات بولٍ حزينة، ثم أدفع به إلى حائط الظلام. غير أنّني سرعان ما أغسل يدي من بقايا دماء مغشوشة، وأسوّي دكّة سروالي وأعود إلى عاداتي القديمة، كأن أجلس لساعاتٍ طوال وسط فناجين مشروبة إلى النصف. هكذا ألهج بكلماتٍ غير مفهومة. صامتاً كمقامرٍ وضع الربح والخسارة في سلّة واحدة. مسحوقاً وبئيساً كمسافرٍ يقضي ليلته في محطة قطارٍ بعيدة.
* كاتب مغربي