يبني زياد عبد الله روايته «كلاب المناطق المحررة» (منشورات المتوسط) في المساحة التي تفصل بين معسكرين، ما جعل لغة الرواية لغةً مجازية وقراءتها قراءة تأويلية، ينهض نصه على جانب إنساني متوارٍ خلف مفردة شرسة وواضحة هي «الحرب».
يكمل الكاتب السوري ما بدأه في كتابهِ «الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص» (منشورات المتوسط ـ 2016) في معالجة أسلوبية للحرب. إذ يكتفي منها باعتبارها موضوعاً يدرج تحته مشاهدات تتقاطع مع الواقع بالقدر الذي يجعل من ذلك الواقع مجازاً وعبوراً إلى فضاء أدبي متخيل. ما يفسر مكونات المسرح الذي يُشيّده عبد الله؛ من مستشفيات وأبراج قنص وأبنية متداعية. يتحرك عبر هذا المسرح قناصون وفنانون وأطباء، عشّاق وقتلة، قدّيسون وخطأة. إلا أنّ الدلالة التي اشتقَ منها الكاتب عنوان كتابهِ، تمثل مقولة الرواية الأبرز. إذ يتحدث الراوي عن صديقهِ إبراهيم الذي سكن الكلب منزله، ثم يعقب بالقول: «سكن الكلب إبراهيم نفسهُ». ينزع الراوي عن الكلب صفة الكلب، ويزعم أنّه «كائنٌ نباح». وبذلك يُقرأ النباح في «كلاب المناطق المحررة» سمة إنسانية، فالنباح سلوك دفاعي يمنع الضحايا من الانهيار، قبل أن تجيء لحظات الموت المديدة لتحررهم مما أخضعتهم له الحرب.

يسند الكاتب لراوٍ عليم سرد الأحداث التي ينقطع زمانها انقطاعات متكررة. يأخذ السرد شكل حوارات داخلية طويلة، أشبه بالهلوسة حتى يضيع الفارق بين الشخصيات التي تملك لحماً ودماً وكلمات، وتلك التي ما هي سوى تهويمات لغوية وأشباح. بالمثل، يبني مشهدياته من واقع الخراب، ساخراً منه ومنتصراً عليهِ أو مسلماً بحتمية الهاوية. يقف العاشق أمام ردم بناية البجع ويدخن سجائر حبيبتهِ، يتكرر حضور بناية البجع كي تكون المكان الواضح والوحيد في جغرافيا مجهولة قوامها السعي إلى نجاة ما. ينير العاشق أضواء سيارتهِ نهاراً، ما جعل الحواجز ترتاب منهُ، ولا يعرف في أيام التيه أي بطاقة سيستخدم كي ينقذ روحه. تضم الرواية شخصيات قليلة وتتفاوت فعاليتها في النص وفقاً لحضورها في ذاكرة الراوي، الذي يشكل الأصدقاء المأزومون جلّ عالمهِ... الأصدقاء الغائبون أو القتلى. تشكل الرواية تأريخاً لعالمٍ متداعٍ، وليست رواية عن الحرب بقدر ما هي توثيق لنزفٍ أودت إليه الخسارات وظروف الفقدان الصعبة، لحرب تشهد خلافاً حاداً في أبسط مفردات الحروب التقليدية. لقد أخرجت لغة المجاز التي يستخدمها الشاعر السوري صاحب «ملائكة الطرقات السريعة» (الانتشار العربي ـ 2005) أبطاله من مآزق عديدة، إذ لم يستطع راويه الحكم، إن كانت المناطق تحرر أم تسقط، وهل ما كان يسرده حياة أم إحدى نزعات الموت الأخيرة؟
يسرد الراوي قصصاً تشكل بمجموعها صورة الحياة وسط القذائف وعمليات القتل وتداعي المدن، لا يرهن نصه لخطاب سياسي محدد. تعتبر قصة سمر وزوجها مثالاً للمآلات السياسية في النص بجعلها مصالح وقضايا شخصية، إذ بينما يقتل زوجها المقدم على يد جنودٍ منشقين، تنجو سمر من القتل ولاحقاً من الجوع وتعيش بفضل قاتل زوجها، حسان الذي يمثل إحدى دعائم النص.

لا يرهن نصه لخطاب سياسي محدد

تجيز أزمنة الفوضى له الوصول إلى سمر، ليدخل حلقة غيرة وأشواق تقوده إلى مصير صاخب: مسورة دش الحمام مغروزة في قلبهِ، وسمر التي كانت قد دفعت تلك الأداة إلى جسده تجري وراءه في الطرقات إلى أن يغيبا. تقوم نجوى وهدى إلى جانب إبراهيم بجولات على المستشفيات من أجل الغناء والعزف للمصابين. تحول كلّ من نجوى وهدى «المسلخ البشري إلى مبنى مسرة وبهجة». تبرز الرواية رتقاً إنسانياً لأوجاع الحروب، جهداً فردياً وعبثياً للتحصين من الخراب الجماعي. يضع الراوي القناصين أبو المجد وميسي في مقابل صبيين فقدا أمهما. يجهز أبو المجد على طيور هدى، ويطلق ميسي رصاص قناصه على أحد الأخوين. يختبئ الشقيقان في أرضية الحافلة، ثم ترعاهما هدى في بناية البجع قبل انهيارها. يصل الراوي إلى هدى بمساعدة حسان، ويحاول الأخير دفعهما إلى تعلم عدد ركعات صلاة العشاء، تحسباً للحواجز الجديدة التي نشأت، ويترك الويسكي والسجائر رشى لحواجز قديمة. تدور الرواية في هذه المساحة التي تشبه المقولة العسكرية «دبر أمورك». يحاول الكاتب في هذا الحيز الضيق للحياة أن يبني قصصاً تخرج مبتورة ورمزية. في زمان لا شيء فيهِ «يستدعي التمسّك بالأظافر والأسنان»، يغفل أبو المجد عن صورة القائد التي يحملها ضحيته ويطلق عليهِ النار طمعاً بالدبدوب الذي «أفقده صوابه» وكان يطمح بأن يحمله لابنه مجد. الضحية التي لم تكن سوى إبراهيم كما لو أنّ في موتهِ إنهاءً لنباحه وانتصاراً لإنسانيته.
ينشغل زياد عبد الله بتعريفات كثيرة للموت، فهو نومٌ دائم، وهو مونولوج مثل الحب، وهو نزوة، مقطوعة طويلة لآلة واحدة. لكن عندما يدفن ابراهيم ونجوى على مسافة كيلومترات، يزعم أنّ بالحب لا مسافات بينهما. ومثلما «يمضي السحر بالحب كذلك بالسحر يستعاد» يزعم الراوي أنّ من انتصر هو من اكتفى بالفرجة، في حين يصل الانتصار إلى القارئ على هيئة حب مهزوم وخائب.