ليست ريادته للقصة الإيرانية الحديثة وحدها، من صنعت كل هذا البريق لاسمه. هناك هذا المزيج الفاتن من الواقعية والفانتازيا والسوداوية. أن نقول صادق هدايت (1903- 1951)، فهذا يعني أننا حيال وليمة دسمة من الوقائع والشخصيات والصراعات النفسية، أو تشيخوف وكافكا ودستويفسكي في مرآة واحدة.
لن نستعيد روايته «البومة العمياء» التي صنعت شهرته خارج حدود بلاده بوصفها علامته الفارقة، إنما سنوجه البوصلة نحو «الأعمال القصصية الكاملة» التي انتقلت أخيراً إلى لغة الضاد (منشورات الجمل، ترجمة غسان حمدان). أربع مجموعات قصصية هي: «الموؤود»، و«ثلاث قطرات من الدم»، و«ظل وضوء»، و«الكلب الضال»، بالإضافة إلى قصص متفرّقة، كان آخرها «غداً». لا يعمل صادق هدايت في منطقة سردية واحدة، فهناك أكثر من طبقة للحكي، تنطوي على مهارة فائقة في كشف مكنونات شخصياته، وهي تعيش أقصى توتراتها النفسيّة، أو لحظة حيرتها في اختيار الطريق. قصص المنعطفات الحادة، حين لا أفق للنجاة إلا بالذهاب قدماً لاختبار ما ينتظر هذه الشخصيات عند الحافة. هكذا يتوغل في الشوارع الخلفية للحياة اليومية ليلتقط ثماره من الهامش. وإذا بها تكتنز بمذاق حرّيف، وأسرار، وألغاز، وشجن.

ذلك أن روحه التشاؤمية أضفت على معظم شخصيات قصصه معضلات وجودية يصعب الخروج منها بطمأنينة، ناصباً الفخاخ لطرائده بما يقودها إلى اعترافات جريئة تطيح القشرة الخارجية نحو البئر العميقة لأوجاعها الدفينة ومفارقات الحياة المهتزّة التي غالباً ما تضعها عند حافة الجنون والانتحار والعواطف المنكسرة، مستنفراً معجم السخرية في تطعيم سردياته القصصية المحكمة التي تتكئ في معظمها على نبش الخرافة الشعبية وإدانتها بنبرة حاسمة. وإذا بالحياة الواقعية نفسها تتحوّل إلى خرافة. هذا التنوّع السردي في قصصه، يأتي حصيلة لتجربته الشخصية في الترحال. إذ كتب بعض قصصه في الهند، ثم في باريس التي أنهى فيها حياته بالانتحار. كأن هذه الحساسية المرهفة الممزوجة بالسخط محكومة بالحياة الخاطفة، على غرار ما فعلته لاحقاً مواطنته الشاعرة فروغ فرخزاد التي عاشت انتكاسات مشابهة. لعل الفترة المضطربة التي عاشها صادق هدايت في بلاده، انعكست على سلوكه الشخصي بخيبات متتالية. فحماسته القومية أوصلته إلى تخوم الشوفينية. كما أن عمق تمثّله للواقع بأطيافه الواسعة، وضع نصوصه في منطقة السريالية لفرط غرائبية الشخصيات التي كان ينتشلها بمهارة من قوقعتها ليسلّط ضوءاً كشّافاً على تضاريس عيشها ومكابداتها وأحاسيسها الخفيّة: «كان الخيط غير المرئي الذي كان مشدوداً إلى قلبه قد سُحب ثانيةً، فانفتح الجرح الذي كان التأم منذ سنوات، مجدّداً» (الطريق المسدود).

أحرق بعض مخطوطات قصصه قبل انتحاره
بمثل هذه الرشاقة والكثافة والدقّة، تمضي قصص صاحب «الكلب الضال»، لكنها ستذهب لاحقاً إلى مسالك فرعية، ونفَساً أطول في تشريح المشهد العام، في جرعات درامية عالية، وأمكنة متناوبة ما بين الريف والمدينة، والطبائع المختلفة التي تفرضها هذه البيئة أو تلك. كما سنقع على نزعة تشاؤمية تتسلل إلى قصصه الأخيرة بإلحاح، على الأرجح هي بذور تفكيره بالانتحار، على عكس قصصه الأولى ذات النكهة الروحانية بتأثير استغراقه بشعر عمر الخيّام. إذ أنجز كتاباً عن حياته ورباعياته المعروفة. في قصته الأخيرة «غداً»، يذهب إلى التجريب في تقنياته القصصية، فيما يحتشد معجمه بمفردات طارئة، ربما بتأثير مرحلته الباريسية واطلاعه على الأدب الأوروبي وتياراته الفكرية، مثل «القلق»، و«السأم»، و«التقيؤ»، و«يا للقذارة»، ثم «أحتاج إلى استنشاق الهواء»، و«إن الحياة ممر طويل متجمّد»، و«متقلّب المزاج». هناك أيضاً تلك العاطفة الخفيّة التي تمنح أبطال قصصه شحنة إضافية في مواجهة أقدارهم، ومحاولة تجاوزها ببسالة، رغم حجم المآسي التي يغرقون في أتونها: «بدا له أن حياته انقضت عبثاً، شعر أنه هو أتعس الكائنات وأقلها جدوى» (الرجل الذي قتل نفسه). هل كان حال صادق هدايت، في أيامه الأخيرة في باريس، يشبه حال بطله، فقرر الانتحار؟ لنتذكّر أيضاً بأنه أحرق بعض مخطوطات قصصه قبل رحيله كنوع من اليأس المبكّر.