دمشق | يصعب رسم تضاريس واضحة لخريطة الثقافة السورية في الحرب، أو إنها لفرط هشاشتها وعملها على السطح تفلت من بين الأصابع. تتبدد تحت سطوة الشعارات القديمة المستهلكة التي أتاحت لمعطّلي الخيال التسلل إلى الواجهة برطانة لفظية خشنة تمنع عبور كل ما هو مختلف، لمصلحة أفراد جعلوا من الثقافة «بازاراً» رابحاً، تحت عناوين رنّانة، تحمي عطالتهم بذرائع وطنية.
مهرجانات، وتكريمات، وجوائز تقديرية، وملتقيات بالجملة، من دون أن تترك أثراً ملموساً يستحق أن نحتفي به، عدا استثناءات نادرة تمكنت من الإفلات بمعجزات فردية تحت بند «اختراع الأمل». عام طويل وشاق وجهنمي لا يشبه أعوام الآخرين.
ذلك أن الزمن السوري يعيش مخاضاً عسيراً، في صناعة الثقافة، استثمره بعضهم كنوع من الحبل الكاذب لتوسيع مساحة المزرعة الشخصية بقوة المنصب وليس بمهارة الأداء. وإذا بنا حيال خواء شاسع يجري ترميمه «إعلانياً»، بتصدير مانشيتات نارية لكنها جوفاء من الداخل، لا تواكب فعليّاً سرديات اللحظة السورية في الحقول الأخرى، بمنتج ثقافي جديد ومبتكر ونوعي، بدلاً من إعادة تدوير الشعارات القديمة، رغم الميزانيات الضخمة المخصصة للإنتاج الثقافي، والتي تتيح فعليّاً تزييت العجلة وتدويرها بما يليق ببلاد تسعى إلى النهوض من رمادها.

سنفتقد الموسيقار
سهيل عرفة، ورائد السينما
السورية صلاح دهني


في الوقت المستقطع، تنمو فضاءات جانبية بعشب مختلف، وسجالات تنطفئ في الحال، أو أنها تأخذ بعداً شعبوياً عن طريق تفريغها من شحنتها بمرافعات مضادة وكيدية غالباً (سجال منذر مصري في مقاله «ليتها لم تكن» وردود الأفعال الغاضبة في تفسير مقاصده، واستبعاد رواية أسعد الجبوري «ثعابين الأرشيف» عن جائزة دمشق للرواية العربية بتهمة الفحش، وتهديد وزارة الثقافة بمحاكمة الصحافيين)، أو ما يمكن تسميته «حروب الإلغاء». هذه الحروب تجري في الداخل، وفي الخارج (ثقافة ما وراء البحار) بالوتيرة نفسها، وبأدوات متشابهة. وفيما تتسلل ورشة ثالثة ما بينهما بصوغ مشاريع ومقترحات بديلة في الكتابة والمسرح والسينما والتشكيل، يسعى الطرفان الآخران إلى اطاحتها باعتبارها سلالة هجينة ومنبوذة ولقيطة.
لا فهرست نهائياً إذاً، للأجندة الثقافية السورية في لحظتها الراهنة، على غرار ما يحدث في عواصم عربية مجاورة أو بعيدة. فالارتجال السطحي هو من يتحكم بجهة البوصلة التي يوجهها موظفو مكاتب في المقام الأول، في توزيع الغنائم، ذلك أن فكرة التجديد تعني في جوهرها تجديد أثاث المكاتب، ولون الستائر، والسكرتيرة، وماركة المياه المعدنية.
«جعالات» ضخمة تُهدر في غير مقاصدها. صالات تحتضر، ومراكز ثقافية بالكاد تجد جمهوراً، ودار أوبرا اقتحمها مطربو الملاهي. لكننا سنقع على اضاءات هنا وهناك بقوة دفع
فردية.
سنتذكر «اختطاف» أيمن زيدان على خشبة «مسرح الحمراء»، و«ستاتيكو» جمال شقير (جائزة أفضل نص، وأفضل ممثلة وممثل/ مهرجان أيام قرطاج المسرحية)، و«هنّ» آنا عكّاش، على خشبة «القباني»، و«عرض البحر» لمجد فضة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وفيلم «مطر حمص» لجود سعيد، و«حرائق» لمحمد عبد العزيز (جائزة أفضل فيلم/ مهرجان روتردام للفيلم العربي)، والمقترحات النوعية لورشات مركز الفنون البصرية، ومعرض يوسف عبدلكي «عاريات ضد الموتى» في باريس، ومعرض بطرس المعري في غاليري «تجليات» في بيروت، و«جائزة الملتقى للقصة العربية» لشهلا العجيلي عن «سرير بنت الملك»، وإصدار الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة الراحلة دعد حداد، والأعمال الكاملة لفراس السواح، و«بيروت ثدياً للضوء» لأدونيس (دار التكوين)، والأعمال القصصية الكاملة لحيدر حيدر (الهيئة العامة السورية
للكتاب).
ما لم يتغيّر، هو منع الكتاب السوري من عبور الحدود لمعظم معارض الكتب العربية، وأحياناً منع الناشرين والكتّاب، في حصار عبثي مستمر منذ سنوات.
في قائمة الراحلين سنفتقد الموسيقار سهيل عرفة، ورائد السينما السورية صلاح دهني، ومعلم السينوغرافيا نعمان جود، والمؤرخ والآثاري عفيف
بهنسي.