تونس | نهاية العام الماضي، وقف وزير الثقافة التونسي محمد زين العابدين في مؤتمر صحافي ليعلن عن مشاريع 2017. حينها بدا البرنامج واعداً. مع انقضاء السّنة، يمكن القول بأن أغلب كلامه لم يعدُ أن يكون زبداً لم يمكث في الأرض. في موازاة ذلك، لم تغب قوى الرقابة الجديدة خلال هذا الموسم أيضاً، مستخدمة العنف في أكثر من حين. في المقابل، يبقى الحراك المستقلّ، والزخم المرافق له، الفاعل الأبرز في المشهد الثقافي التونسي.
على الورق، كانت مشاريع وزارة الثقافة ثورية. لكن الطروحات النظرية لا يمكن أن تتجسّد في غياب هياكل فعّالة. في تونس يتفّق الجميع، تقريباً، على توصيف وزارة الثقافة: أخطبوط إداري عاجز. تحدّث وزير الثقافة في 2017 عن مجموعة من المشاريع الثقافيّة: «مدن الفنون»، «مدن الحضارات»، «مدينة الثقافة».
عمليّاً، يجمع أغلب المراقبين على أن «مدن الفنون»، التي كان يُفترض أن تكون فضاءات حرّة للنقاش والعروض العموميّة، بقيت فارغة. في أغلب الأوقات، هُجرت الساحات بانتهاء حفلات تدشينها. لم يختلف مصير «مدن الحضارات» عن نظيرتها. تحدّث المشروع عن تثمين المناطق الأثريّة لمختلف الحضارات التي عرفتها تونس. في النهاية، لم تخرج الأنشطة عن الاحتفالات الفلكلوريّة المعهودة، في تناقض أحياناً مع طبيعة المواقع.
أما «مدينة الثقافة» فرغم إعلان افتتاح جزء منها، إلّا أنها لم تشهد أيّ نشاط. بُرمج مشروع المدينة، التي يفترض أن تُفتتح كليّاً بداية العام المقبل منذ أكثر من عقد. لم تتواصل أعمال التشييد قبل الثورة، وأعيد إحياء المشروع بعدها. تحوي المدينة ثلاثة مسارح بطاقات استيعاب مختلفة، ومكتبة سينمائيّة، ومتحفاً للفنّ المعاصر ستُعرض فيه اللوحات التي اقتنتها وزارة الثقافة وبقيت طوال عقود داخل مستودع، بعيداً عن أعين الجمهور.
تعرّض المشروع لنقد شديد. تُوجد المدينة في العاصمة، واعتبرت ــ بناء على هندستها وفلسفة نظام بن علي، الذي برمج إنشائها ـــ محاولة لاستيعاب النشاط الثقافي في مكان واحد، تسهيلاً للرقابة. إضافة إلى ذلك، يعمّق المشروع واقع المركزيّة المفرطة، فهو ليس فقط مشروعاً في العاصمة، بل في محورها، بعيداً عن أحيائها.
إلى جانب المشاريع المجهضة، تشددت معارك المنتفعين من دائرة الثقافة الرسميّة. تشتري وزارة الثقافة في العادة عروضاً، وتفرضها بعد ذلك على مديري المهرجانات، أو تدعم إنتاج أعمال تختفي بعد عروض قليلة. تلك سياسة قديمة، تبريرها غياب رأس المال عن الاستثمار في الفنّ والثقافة. لكن من عيوبها خلق فئة مستفيدة تقتات من ميزانيات الدعم؛ ولا تغيب الزبونيّة والعلاقات الشخصيّة عن الملف.
عندما كتب المثقف التنويريّ الطاهر الحداد كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» سنة 1930، ندد الشيخ الزيتونيّ محمد بن مراد ورد عليه برسالة أنهاها بجملة تقول: «هذه دفعة على الحساب حتى أقرأ الكتاب». بالمثل، لم يعرف رضا الجوادي ــ وهو إمام سبق أن وقع عزله ـــ من مسرحيّة «ألهاكم التكاثر» أكثر من عنوانها قبل أن يكتب على الفايسبوك «عاجل وخطير... آية قرآنية توضع عنواناً لمسرحيّة راقصة في تونس!» وطالب الدولة والبرلمان والشّعب «المسلم» بالتدخل. وعليه، تلقّى مخرج العرض نجيب خلف الله تهديدات عنيفة، فتراجع «المسرح الوطني» وحجب عنوان العمل بالعربيّة. لكن ذلك لم يمنع الاعتداء على خلف الله. إذ استهدفته عناصر مجهولة وأصابت رأسه بآلة حادة، أسالت دمه.
نسجاً على نفس المنوال، رفضت وزارة الثقافة التصريح لفيلم «محمد رسول الله» بالعرض. إذ اعتبرت أن عرض شريط المخرج الإيرانيّ مجيد مجيدي قد يؤدي إلى احتجاجات غير مرغوبة. استحضرت وجهة النظر الرسميّة، على نحو مبطن، الهجوم الذي تعرضت له سينما «أفريكار» عام 2011 عند عرض فيلم «لا الله لا سيدي» للمخرجة نادية الفاني، والتظاهرات التي أعقبت تمرير إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة لفيلم «برسيبوليس» الشهير. اعتبر السلفيّون حينها أنّ كلا العملين يمسّان الدين الإسلامي. هذه المرة، تحركت أوساط محافظة، وهددت بالتظاهر أمام قاعات العرض ومنع تمرير الفيلم. اعتبر المعارضون أنّ عمل مجيدي يجسّد الرسول محمد ويمسّ المذهب السني ويروّج للتشيع. أصدر الحكم من دون الاطلاع على المحتوى طبعاً.
لا تقتصر قوى الرقابة الجديدة على بعض المتدينيّن. في حادثة تماثل مشهد تفريق حفلة فرقة الراب الأميركيّة «إن دبليو آي» في فيلم «مباشرة من كامبتون» (Stright Outta Compton)، عطّلت قوات الأمن عرض مغني الراب كلاي بي بي جي بالقوّة. لم ترق إحدى الأغنيات للأمنيّين، فقرروا بكلّ بساطة إيقاف الحفلة ومطاردة المغنّي على الخشبة. هلع الجمهور وسادت الفوضى المكان. بعد ذلك، قررت النقابات الأمنيّة أن عناصرها لن يؤمنوا أيّاً من المهرجانات التي يحضرها كلاي. انحازت وزارة الثقافة لموقفهم وألغت حفلاته المبرمجة. رغم بقاء الثقافة الرسميّة على حالها عاماً بعد آخر، إلا أنّ هناك بقعة ضوء جعلت أجواء الحريّة من «أيام قرطاج السينمائيّة»، وبصفة أقلّ «أيام قرطاج المسرحيّة» و«المهرجان الدولي لسينما الهواة»، أحداثاً شعبيّة تتجاوز مبيعاتها 200 ألف تذكرة. كما تأسست، بمبادرات مدنيّة، أحداث ثقافيّة أخرى. اختتم منذ أيام «مهرجان الرديّف للأفلام الوثائقيّة» دورته الرابعة، وهو حدث يُقام في مدينة الرديّف المنجميّة جنوب البلاد التي تعيش ــ على غرار بقيّة المدن الداخليّة ــ على هامش الفعاليات الثقافيّة الرسميّة. ويستعد «مهرجان الفيلم العربي» لإقامة دورته الثالثة قريباً في مدينة قابس، مع بعض التأخير. وترك «مهرجان الجاز» في مدينة طبرقة انطباعات ايجابيّة بعد عودته بتمويلات محدودة، وإصرار كبير. بعيداً عن المهرجانات الموسميّة، تمتد بقع الضوء لتشمل تأسيس نواد وجمعيّات جديدة كلّ عام، داخل الجامعات وفي الجهات، تعنى بالسينما والمسرح والشعر والكتب والرسم. بمثل هذا الزخم، لا يمكن للعجلة أن تعود إلى الوراء. نعم لم يتحقّق كلّ شيء، لكن ما تحقّق يكفي لإبقاء الأمل قائماً. طبعاً، لم يمر العام من دون أن يطوي معه أسماء أخذت مكانتها في الوجدان. هكذا، غيّب الموت توفيق بكار ومحمد الطالبي، وكلاهما من مؤسسي الجامعة التونسيّة، إلى جانب الروائيّ والناقد الأدبي محمد الباردي. وانطفأت الناقدة السينمائية والناشطة نورة البورصالي ورجاء بن عمار التي أسّست مع جمع من رفاقها «مسرح فو» عام 1980، وخاضت صراعات حتى تحقق حلمها الأكبر مع افتتاح فضاء «مدار» المسرحي، قبل أن يُفتكّ منها. رحلت بعد تجربة ثريّة. لكن جهدها لم يذهب سدى، تركت جيلاً مسرحيّاً يحمل رسالتها.