صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر
راينر مالكوفسكي
ترجمها عن الألمانيّة سوار ملا


في بداية ستينيات القرن الفائت، باشرَ راينر مالكوفسكي (1939 ــ 2003) العمل وكيل إعلانات ليعيلَ نفسه وبَلَغَ نجاحاً كبيراً في مهنته ليصبح أحد الشركاءِ المالكين لإحدى أهمّ وكالات الإعلان في جمهورية ألمانيا الاتحادية آنذاك، إلا أنه لم يشعر بالراحةِ وتوقّف عن هذا العملِ الذي كان قد بدأه ليكسب قوت عيشه.
لكنه قرَّر في سنة 1972 أن ينتقل للسكنِ في مدينة براننبورغ على نهر «إِن» ليكونَ محاطاً بالطبيعة ويفرّغ نفسه بصورة تامّة للعملِ الكتابيّ، ويكملَ شغفه المبكّر بالكتابة والأدب. ديوانه الأوّل «يا له من صباح!» (1975) جذب العديد من الأصواتِ النقديِّة، وبذلك غدا مالكوفسكي أحدَ أبرز الشّعراء الألمان الشّباب في تلك الحقبة. يكمنُ لغزُ كتابات مالكوفسكي في البحثِ الدؤوب عن الأشياء العابرة والفارّة والتبدُّلاتِ الدقيقةِ، والذي يحتاجُ بطبيعة الحال إلى حساسية وانتباهٍ شديدين. على عكس أقرانه الشعراء، بقي مالكوفسكي خارج صالونات الأدب، مكتفياً بكتابة الشِّعر في مأواه ومراقبة العالم، إلى أن فارق الحياة سنة 2003 عن عمر يناهز الثالثة والستين بعدما عانى طويلاً من مرضِ السرطان.


«الإيجاز»

ما لم تنجزه أي رواية بعد، مهما كانت عظيمةً، ولن تنجزه أي روايةٍ مهما تنامت وبلغت بها السِّعة: تحديد طبيعة الأشياء؛ فالكتابة عن الأشياء في نصٍ أدبيٍّ تقتضي تكثيفاً بالغاً وكذا إيجازاً ملائماً.

■ ■ ■


الشعراء مهووسون بالأشياء، بشكلِها الذي يحدِّده المكانُ، بعناصرها اللدنة،
بكتلتها الحالمة، بصمتِها.

■ ■ ■


الحيّز غير المطبوعِ من الصفحة، أسفل القصيدة،
مخصَّصٌ للصدى.

■ ■ ■


أحياناً، أتساءل إن كان الميل إلى الإيجاز برهاناً على التشاؤم ومتعلّقاً بتجارب العبثية واللاجدوى، أم أنَّه دليل تفاؤلٍ وثقةٍ بقدرة الكلمات ونابعٌ من الإيمانِ بأن نداءً خافتاً يكفي للتفاهم؟
لكن، كم سيكون الأمر معقّداً لو اجتمع ذلك كلّه عِنْدَ كاتبٍ!

■ ■ ■


الاختصارات المتهورةُ، الجسورةُ، تحديداً في تلك النصوص التي لا تتجاوز بضعة أسطرٍ، هذه الاختصارات بالذّات تُبيِّن ادعاءَ «الكمال» لدى كاتبها، لأنَّه لم يجد أهميَّة وعوزاً لكلماتٍ إضافية.

■ ■ ■


«بعدما انتظرتُها طويلاً، ها قد امتلأت شجرة الخوخ بالثمارِ، إلا أنني قطفتُ ثمرتين وحسب.
لقد بدا لي أكثر جدوى، أن أحصل، عن وعي، على قسطٍ من هذه الوفرة».

■ ■ ■


تلك القصائد التي تحوي مشهداً وحيداً تُسمَّى «ومضات|. لكن القول إنها قصائد بحقّ، خاطئ تماماً؛ لأن كلّ قصيدةٍ جيدة تحملُ الماضي والمستقبل معاً، تجمعهما، فتصنع زمناً متكاملاً مثلما تفعل الظواهر. نلحظُ ذلك، مثلاً، في قصيدة «ليلاً» للشاعر زيزكنوتزه، التي تتحدَّث عن الأرق وعدم القدرة على النوم ـــ قاصداً بذلك النوم العظيم الذي يترقّبنا ـــ والتي تنتهي بـ:
«لا يزال بإمكاننا أن ننفضَ السكونَ القابع أسفل رؤوسنا».

■ ■ ■


حين لا يكون ثمَّة الكثير ليُكتَب، يُستحسَن أن يكون النصّ طويلاً، لأن ذلك ينكشف بسرعةٍ في النصوص القصيرةِ. حتى الآن، لم يخطر في بال أحدٍ أن يُسمَّي عملاً تشكيلياً صغيراً «لويحة»، بينما تسمية ديوانٍ شعريٍّ استغرق سنوات من العمل الدؤوب، حتى بين أولئك الذين لا يُنتظَر منهم ذلك، بـ«كُتيّب» أمرٌ شائعٌ جدّاً! أعرفُ استخداماً يتيماً لكلمة «كُتيّب» لا يبخسُ العمل حقّه، وذلك في مقطع من قصيدة «أساطير حول نشوء كتاب داوديجنغ» لبرتولت بريشت: «حزمَ أمتعته وكان كلّ ما يحتاج إليه غليونه الذي يُدخّنه كل مساء و«كتيّباً» يقرأه في كلّ حين».
كُتيّب كهذا سأكتبه بكلِّ مسرّة!

■ ■ ■


إننا، جميعاً، في نهاية المطاف وقياساً إلى إمكاناتنا الحقيقيّة مسهبون جدّاً.

«عن ثراءِ العين»

التحدُّث مع أحدٍ دون رؤيةِ عينيه، لأنَّه يخفيهما خلف نظارةٍ أو لأن بصركَ لا يقوى على ذلك، حالةٌ مونولوجيَّة. إنَّه يتطلَّب مجهوداً فكرياً وكلاميَّاً مبهمَ العواقبِ.

في الحالةِ العاديَّة، قبل أن يفتحَ المتحدِّث فمه، تُجيبُ نظراتُه، من خلالِ ما تبدو عليه:
موافقةً أو مرتابةً، منتبهةً ومُشجِّعةً أو هازئةً تبعثُ على تصحيح شَيءٍ ما.
في غيابِ دورِ العينِ، يصعُب حقَّاً بلوغ ذروة نقاشٍ ما؛ ومن الصَّعبٍ تصديق أنَّ الأذنَ وحدها تكفي لفهمِ ما يودّ الآخرون قوله.

ليسَ للكلمةِ المنطوقةِ هيئة واضحة، إنَّما وحدها نظراتُنا هي التي تمنحها بَدَنَاً وتمسّ خطوطَها بشهوانيَّةٍ بالغة.

■ ■ ■


العددُ الخياليُّ للنسوةِ السّاحرات في الشوارعِ، في المقاهي وردهات المسارحِ، التقاء الأعين والتواصل البصريّ،
الإشاراتُ المتبادلةُ والصّدمات، التبصُّر في الفرصِ العابرةِ. بالفعل يكمن ثراءُ الحياةِ في صيغةِ الاحتمال، وليس ثمَّة ما يعادلُ الحرمانَ الشهوانيّ المرتبطِ بالعمى، ويا لها من خسارة حين يدركُ المرءُ أخيراً أنَّ حتَّى الشجاعة الروحيَّة مرتبطةٌ بصورة وثيقةٍ بالشروطِ الجسديَّة.

■ ■ ■


في العتمةِ يثملُ المرءُ بسرعةٍ أكبر.

■ ■ ■


نادراً ما كنتُ في السابق أُذهَل من حدَّة رؤيتيّ لشيءٍ ما: «منزلٌ أبيض في قاعِ وادٍ، أمامه رجلٌ يشطر الخشبَ، وفي القطار المارّ امرأة تتكلَّم بالهاتفِ خلف النّافذة». في لحظات كهذه، حين تدهشني قدرتي على الرؤية، يأخذ المشهد اليوميّ هيئة رسالةٍ شخصيّة مُعَنوَنة، تكمنُ فيها دعوةٌ إلى شَيءٍ ما لا يمكن التحدُّث عنه، لذا فهي تظلّ تُقلِقني.

■ ■ ■


طريقةُ عبورها أمامنا، هكذا بطيئةً ومائلةً قليلاً، بخطى يتملَّكها بعضُ التردُّدِ حين تلتفّ وتنظرُ إلينا بعينين دائريتين، تُذكِّرُني بدجاجةٍ.
الانتباه إلى خصوصيّة متفرِّدة لا يتشكَّل عن الخصوصيَّةِ الفرديَّةِ نفسها، إنمَّا ينشأ دوماً عبرَ إجراء مقارناتٍ. لذا حريٌ بالكاتبِ أن يشاهدَ أشياء كثيرة متنوّعة.

■ ■ ■


ثمَّة ضيوفٌ يلاحظون في أوَّل زيارة لهم كلّ أثاث البيتِ بشكل مفصَّل؛ هؤلاء بمقدورهم أن يصنعوا من ذاكرتِهم فهرساً يمكن الاستفادة منه، بينما آخرون ينتبهون إلى قطعةِ أثاث أو لوحةٍ ما بعد سنوات، بعد أن يكونوا قد مرّوا بجانبها عشرين مرَّةٍ. إنَّ القدرة على الانتباهِ هي أيضاً مقياسٌ لدرجة الحريّة الداخليَّة.
أولئك المنهمكون بجعل أنفسهم ملائمين في مكان غريبٍ، لن يروا شيئاً منه.
إنَّهم يجدونه غامضاً ومُختَصَراً ويُحسّونه تهديداً عليهم أن يصمدوا أمامه.

■ ■ ■


بالكاد يمكن التمييزُ، إن كانت الرؤيةُ بدقَّةٍ هي مجرَّد رؤيةٍ أم أنها فكرةٌ بحدّ ذاتها.

■ ■ ■


المرءُ لا يحترف التَنَزُّهَ ويتجوَّل في المُدنِ الشهوانيَّة أو يتوه بين حقولٍ مهملة غير مشذّبةٍ لمجرّد عوزه إلى الحركةِ، إنَّما بالدرجة الأولى، نزولاً عند شهوةِ عينه. إلا أن ذلك لا يصحّ تماماً ما لم يتذكّر المرءُ أن العينَ جزءٌ من الدماغ. الصمودُ المُذهل الذي تبديه طاولة كتابة قديمةٍ وهشّة أثناءَ التنقّل والحركة له أسباب ذهنية أيضاً.
يبلغ العطشُ إلى الرؤية حدّه الأعظمَ حين يكون المرء سائراً على قدميه.

■ ■ ■


غرفة الفندقِ مطلَّةٌ على البحر، لكنَّني لا أرى البحرَ. إنَّه يختلطُ مع السَّماء اللامعةِ والمعتمةِ في الوقت عينه، بصورةٍ مماثلةٍ.
يؤكّد زوجي أن السَّماء معتمةٌ، وتقولُ إنَّ من الصّعب بالفعلِ تمييز البحرِ. وهذا يريحني.
أثناءَ حديثها عن الظلّ وتدرُّج الألوان المبهجِ، تخطَّت قدرتي على التنبُّه حدود التوقُّع.
الآن صرتُ أقوى على رؤية البحرِ لثانيةٍ أو ربّما اثنتين، وقد يَكُونُ يُخيَّل إليّ.

■ ■ ■


أحدُ أكثر أنواعِ الحرمان من الحريَّة إهانة أن لا يعرف المرءُ كم سيظلّ النورُ مشتعلاً.

■ ■ ■


يقول الكثيرون إنَّ معنى الحياة يكمن في عيشِها، أي في الإحساسِ الشديد بها؛ وهذا الرأي يتبنّاه المرءُ بسهولةٍ أكثر كلَّما كانت حواسُّه أشدَّ حساسيةً. ولا أعرف كيف كانت أمّي تجدُ الأمرَ حينما آصبحَ نهارُها ليلاً في آخر فترةٍ ولم تَعُد تُثمِّنُ صحبةَ أحدٍ أو شَيءٍ سوى ساعةٍ منطوقةٍ، كانت بواسطتِها تحافظُ على نظامِ حياتِها، الذي بدونِها كان سيفقدُ وجودَه، وخاصّة في غيابِ تبدُّل النّور والظلمة؛ وكانت تحسّ من خلالِها بمرورِ الوقتِ كما لو أنَّه عهدٌ ما؛ هذه الآلةُ التي بحجم «جهاز الإملاءِ» كانت في يدِها على الدوام، وحتَّى عندما كنا نخبرها بأنَّ الساعة الآن الواحدةُ وست وثلاثون دقيقة، الواحدة وثمان وثلاثون، الثانية تماماً، لم تكن تتخلّ عنها.

■ ■ ■


كلّ ما يُرى مرَّةً يغدو مجهولاً وغامضاً إن لم يتكرَّرْ باستمرارٍ والخوف من الضياعِ والتيه ـــ المتعلِّق بذلكَ أيضاً ــ ربّما هو أعمقُ وأشدُّ الأسباب تأثيراً في الوعي التي تجعلنا في حاجةٍ إلى أن نكون محاطين باللوحات والصّور.

■ ■ ■


المخطط اللونيّ ذو اللون الواحد هو مجرَّد اقتباسٍ من ثراءِ العين.

■ ■ ■


العيشُ في غرفةٍ جدرانُها بيضاء عارية لا يستنزفُ طاقةً داخلية أقلَّ من العيشِ في العتمةِ.
نحن نعيشُ في حديقةِ الصفّاتِ الجميلةِ، حيث تعملُ العتمةُ والضوءُ على إبرازِ الفروقاتِ المميَّزةِ، التي تحثّنا على إيجاد تسمياتٍ وصفات لها، لكن حينَ لا يعودُ بمقدورِ عينكَ الرؤية بدقَّةٍ، لأنَّك تعيش بين الضبابِ، في اللُّبْس والغموضِ، آنئذٍ عليك أن ترضى وحسبُ بجنسِ الأشياء وفصيلتها، هكذا مثلما تتبدّى لكَ، من دون أن تصفها بدقة.
اللغة تقتصر في هذه الحالة على الأسماء: شجرة. كلب. وها هناك، مثلما يبدو، شخصٌ يمرّ.